رؤية في أحداث غزة وعموم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي

ضياء الشكرجي
2023 / 10 / 11

العملية الأخيرة التي قامت بها حماس قبل أيام، والتي كانت الأولى من نوعها منذ خمسين سنة، والرد الإسرائيلي العنيف، بحيث سميت الأحداث بالحرب، تجعلني ولو متأخرا إلى حد ما، لا أسمح لنفسي أن أمر على هذه الأحداث الدامية، أو تمر عليّ دون أن أبين موقفا منها، ولو إن العديد أدوا بدلائهم بخصوص الأحداث، ذلك لأن طبيعة هذا الحدث الاستثنائي، يجعل، خاصة في منطقتنا، لكل شخص ربما موقفه المتميز عن غيره، حتى لو كانت هناك مشتركات.
قبل أكثر من عقد كتبت مقالة بعنوان «الحل العلماني للصراع الفلسطيني الإسرائيلي»، أو بعنوان مقارب، والغريب أني لم أفلح في العثور على تلك المقالة، ولذا سأبين موقفي كـ(ديمقراطي-علماني-ليبرالي-اجتماعي) من الصراع الأخير، ومن عموم القضية الفلسطينية، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أو العربي الإسرائيلي، أو الإسلامي الإسرائيلي، منذ تأسيس دولة يعقوب العبرية قبل 75 سنة، وما مرت به من حروب، ومعاهدات سلام، وانتفاضات.
في اليوم التالي لبدء الحرب بين غزة وإسرائيل كتبت منشورا، سأورد بعض ما جاء فيه، مع إضافات، فقد كتبت:
عندما تلقيت أمس خبر التصعيد بين منظمة حماس وإسرائيل، لم أرد أن أنشر أي تعليق، لصدمة المفاجأة، إذ وجدت من الصعب عليّ نشر أي تعليق حول هذا التصعيد، وأنا ضد الطرفين، ولعلمي أني يجب مزاولة (التقية) في الوسط العلماني، فيما هو أعم من الاتجاه الليبرالي، إذ كل ليبرالي مثلي هو علماني بالضرورة، لكن ليس كل علماني هو ليبرالي، ولأن الكثير من الأصدقاء العلمانيين بسبب الغلو في موقفهم المعادي للغرب، يصطفون بالضرورة مع كل من يواجه الغرب، ولا يميزون بين وجوب الوقوف موقف الإدانة لسياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، ومعه موقف التضامن الواجب أخلاقيا وإنسانيا مع حقوق الشعب الفلسطيني، هذا الموقف الذي نشترك كليبراليين فيه وإياهم، وإن كان بعض الأصدقاء اليساريين الراديكاليين يعتبرون الليبراليين موالين للغرب، أو رجعيين، أو هم ضد العدالة الاجتماعية، التي هي أحد أهم أهدافنا كليبراليين، خاصة الليبراليين الاجتماعيين مثلي. فنحن، أعني أنا ومعي معظم الليبراليين الذين أقدر أنهم يتفقون معي، دون أن أنصب نفسي ناطقا باسمهم؛ إننا مع تضامننا الكامل مع الشعب الفلسطيني وحقوقه، لا نجد مبررا معقولا لحماس، للقيام بهذه العملية غير المسؤولة حتى تجاه شعبها، والتي تعتبر بكل المعايير عملية إرهابية، استهدفت مئات المدنيين من رجال ونساء وأطفال، ووحدت الإسرائيليين في وقت يعيش المجتمع الإسرائيلي ما لا يسبق له مثيل من التناقضات، فاضطرتهم بهذه العملية أن يتخلوا عن مطالبهم الديمقراطية، ضد قرارات نتنياهو في نقضه لأهم مبدأ للنظام الديمقراطي، وهو مبدأ الفصل بين السلطات، لأنهم يرون أنفسهم الآن مسؤولين للاصطفاف مع كل من يواجه هجوم حماس، وأنست، أي هذه العملية، الأوساط الناقدة ولو نقدا خجولا إلا نادرا لسياسة إسرائيل في الغرب، ليصطف الجميع مع إسرائيل بلا شرط، حتى لو انتهكت إسرائيل انتهاكا صارخا لحقوق الإنسان، وارتكبت أبشع جرائم الحرب، إذ راح المجرم العنصري اليميني نتنياهو يرد بقسوة مضاعفة، راح ضحيتها مئات الأبرياء من الشعب الفلسطيني في غزة، كما أودت عملية حماس بمئات المدنيين الأبرياء على الجانب الإسرائيلي، وهناك ما يؤشر إلى أن إسرائيل اتخذت قرار الإبادة الجماعية لشعب غزة، أو على الأقل القضاء على آخر مقاتل لحماس والجهاد الإسلامي، ومن يتضامن معهما. فنحن أمام قضية عادلة للشعب الفلسطيني، لا نملك إلا التضامن معها، لكننا لا يمكن بالانتصار لقضية عادلة بوسائل إرهابية وترعيب وقتل واختطاف المدنيين في جهة (العدو). وللأسف إننا بتقديري لا نجد ممثلا حقيقيا لقضية الشعب الفلسطيني، فمن جهة السلطة الفلسطينية البائسة برئاسة العجوز البائس محمود عباس، الذي لا يعرف الانتصار لقضية شعبه، إلا بالخطب الحماسية مقروءة من ورقة بأسلوب التلاميذ الصغار الذين يتدربون على مسابقات الخطابة في المرحلة الابتدائية، وقد نبهني الصديق الناصر دريد إلى الفساد المالي الغارق فيه عباس وبقية أعضاء السلطة الفلسطينية، وفي الجانب الآخر حماس، المنظمة الإسلامية الإرهابية المدعومة من قبل النظام الإيراني المكروه من شعبه ومن المجتمع الدولي على حد سواء، وكذلك نجد المنظمتين الإسلاميتين الإرهابيتين السنية أيضا كحماس (الجهاد الإسلامي) والشيعية (حزب الله اللبناني)، مع إن الطرف الإرهابي في المقاومة الفلسطينية صادق في مبادئه، بينما السلطة الفلسطينية أصبحت فلسطين بالنسبة لها وسيلة ارتزاق لا أكثر. فالقضية الفلسطينية بتقديري يتيمة للأسف، ومظلومة من الجانبين؛ من الدولة الصهيونية العنصرية، ومن مدعي تمثيلها والمتاجرين بها، أو المقاومين غير الواقعيين وإن كانوا صادقين، من المنظمات الإرهابية آنفة الذكر، وميليشيات (المقاومة) الولائية في العراق، والحوثيون، وجمهورية ولاية الفقيه الديكتاتورية. إننا وجدنا أنفسنا في اليومين الأول والثاني أمام هوس التسابق في إصدار البيانات، من يساريين راديكاليين، وإسلامويين، وعروبيين، بل ومن علمانيين يعتبرون أنفسهم ديمقراطيين، ونجد أكثرهم هم أنفسهم الذين اصطفوا مع پوتين في حربه العدوانية ضد أوكرانيا، أو على أقل تقدير برروا له شن هذه الحرب، بسبب كراهتهم غير الموضوعية للغرب، الذي يحملونه مسؤولية استفزاز البطل التاريخي ڤلاديمير پوتين، واليوم سمعنا عن المنطقة الموبوءة نوي-كولن Neukölln في برلين حيث يوزع لبنانيون وعرب آخرون الحلويات محتفلين بـ(الانتصار) الذي حققته حماس، كما خرج الميليشياويون العراقيين والحوثيون وغيرهم في تظاهرات محتفين بالنصر المؤزر لحماس الإرهابية. إدانتنا الشديدة لسياسات إسرائيل العنصرية واللاإنسانية، وتضامننا التام مع الشعب الفلسطيني في حقوقه، لا يبرر لنا أن نقف مع الإرهاب، الذي يرهب ليس الإسرائيليين فقط، بل شعبه الفلسطيني نفسه في غزة أيضا، ويعرضه للكوارث، لأنه يعلم إن إسرائيل بحكومتها اليمينية العنصرية، لن تتوانى عن أي رد فعل إرهابي أيضا، وسيسكت تجاهه الرأي العالمي، لاسيما الغربي، لأنهم يجدون أنفسهم مضطرين، إما عن قناعة وإما حرجا، أن يعتبروا ذلك دفاعا مشروعا لإسرائيل عن أمنها، ولو إنه ظهرت بعض المواقف المنصفة في انتقاد الحصار على غزة، وقلت الانتقاد وليس الإدانة، لأن إسرائيل تبتز الغرب، في اعتبار أي إدانة لسياساتها من قبيل معاداة للسامية، مع تحفظي على المصطلح لأن العرب هم ساميون أيضا. أرجع وأقول ما قلته في العقد الأول من ألفيتنا، لا حل لهذا الصراع إلا بدولتين علمانيتين؛ أو دولة علمانية واحدة كونفيدرالية، يختار لها اسم غير اسم (فلسطين)، ولا (إسرائيل)، والذي هو الاسم الثاني ليعقوب، الذي لهذا السبب نجد من يعتبر الشعب الإسرائيلي، قومية تنتسب إلى نسله، كما هم (السادة) عند الشيعة الذين ينتسبون إلى علي وفاطمة، مما يمنحهم شرعية إقامة دولة للشعب العلوي-الفاطمي، مع الفارق بأن شخصية يعقوب قد لا تعدو كونها مجرد شخصية أسطورية لا وجود لها أصلا، كما لم يثبت وجود إبراهيم وموسى وداوود وسليمان ويوسف، إذ لم يجد منقبو الآثار في مصر وفلسطين أي شيء يشير إلى أن لهذه الشخصيات وجودا حقيقيا، ومع هذا تعتبر الأديان الإبراهيمية الثلاثة القدس مدينة مقدسة، وسبب ذلك لكل منها ما هو إلا أسطورة ووهم، وبالتالي نجد مرة أخرى جذور مشاكلنا دينية أو طائفية.
هذا الحل العلماني للدولتين أو الدولة الواحدة الكونفيدرالية أو الفيدرالية، تترتب عليه عدة أمور، منها حظر حشر الدين، سواء اليهودي أو الإسلامي في السياسة وإدارة الدولة، وحظر الأحزاب اليهودية والإسلامية، وحظر ثقافة الكراهة من الجانبين، بحيث لا يجوز مطلقا لا في الإعلام ولا في المناهج المدرسية، بث كراهة الفلسطينيين أو العرب أو المسلمين في أوساط اليهود، كما لا يجوز بث ثقافة اليهود في أوساط الفلسطينيين أو الإسرائليين العرب الحاليين أو المسلمين، الذين سيكونون كلهم مواطنين متساوين في الحقوق في دولة علمانية قائمة على مبدأ المواطنة، أو كمرحلة أولى ممهدة لذلك في إطار دولتين علمانيتين، لحين تحقيق شروط توحيدهما في دولة كونفيدرالية أو فيدرالية، يفضل ألا تقسم حينئذ عموديا شرقا وغربا، بل أفقيا شمالا ووسطا وجنوبا، لتفادي صنع كانتونات خاصة لليهود وأخرى خاصة للمسلمين، وربما مثلهما للمسيحيين والدروز.
نعم إسرائيل قامت على أساس غير شرعي، وذلك احتجاجا بمقولة دينية، لا يؤمن بها إلا أتباع ذلك الدين، بالأرض الموعودة، والغرب رغم تحوله إلى العلمانية وإبعاد الكنيسة عن السلطة السياسية، دعم هذا المشروع الصهيوني في التأسيس، ربما بسبب تأنيب الضمير، لما لاقاه اليهود في الغرب، لاسيما في ألمانيا من إبادة عبر الهولوكوس، فأهدوا لهم فلسطين تعويضا لهم مما لا يملكون. ونحن كليبراليين، بل عموم العلمانيين لا نسمح لأنفسنا أن نكون ضد اليهود، كأتباع دين، ولا ضد المسلمين، ولا ضد أتباع أي دين، حتى لو كان منا من الناحية الفكرية، لا السياسية، مثلي رافضا للأديان، لكن ملتزما بالحرية الدينية. لكنا نعتبر إقامة هذه الدولة غير شرعي، ونتضامن مع حق الشعب الفلسطيني، أولا لأننا كعلمانيين نرفض قيام دولة على أساس ديني، وبهذه الحدود موقفنا من إسرائيل كدولة للشعب اليهودي كما يريدونها، كموقفنا من جمهورية إيران الإسلامية وإمارة أفغانستان الإسلامية، لكن يجب أن ندرك أيضا إن هذه اللاشرعية في تأسيس إسرائيل، أصبحت بعد ٧٥ عاما أمرا واقعا، كما أصبحت الكويت أمرا واقعا، إذ لم يعد الكويتيون يعتبرون أنفسهم عراقيين، وهناك أمثلة كثيرة في أورپا، بحيث أصبحت مدون ألمانية جزءً من فرنسا، وأخرى جزءً من پولندا، وقد توالت الأجيال في إسرائيل، هذه الأجيال التي فتحت أعينها وعرفت إن إسرائيل وطنها، ولا يمكن معالجة اللاشرعية بلاشرعية مضادة بطرد يهود إسرائيل من فلسطين، كما رفع هذا الشعار كل من جمال عبد الناصر، بوجوب رمي اليهود في البحر، وخميني الذي رفع شعار وجوب إبادة إسرائيل، بل لا بد من البحث عن حل إنساني علماني عادل وواقعي، وأؤكد على كلمة واقعي، بحيث لا يتدخل أي من الدينين اليهودي والإسلامي في الشأن السياسي، في كل من الدولتين المتجاورتين، أو الدولة الكونفيدرالية الواحدة بعد ذلك، ولا يسمح في الدولة العلمانية الشرقية بث ثقافة الكراهة ضد اليهود، ولا يسمح في الدولة العلمانية الغربية بث ثقافة الكراهة ضد المسلمين والفلسطينيين والعرب، وتحظر فيهما الأحزاب الإسلامية واليهودية. حل يبدو خياليا فانتازيا يبتعد عن الواقع ويحلق في فضاء الأحلام، لكني لا أرى حلا سواه، ويا ليت المشروع يطلق قريبا من عقلاء الجانبين، عسى أن تشهد نهاية هذا القرن تطبيقا له. وبلا شك لا يمكن أن يشهد هذا الحل أرضية له، ما لم تَشِع الثقافة العلمانية لدى كل من الفلسطينيين لاسيما المسلمين منهم والإسرائيليين اليهود. نتطلع إلى اليوم الذي يدرك يهود إسرائيل، بل يهود العالم، أن ليس هناك شيء اسمه الشعب اليهودي، كما ليس هناك شيء اسمه الشعب المسلم أو الشعب المسيحي، فاسألوا أجدادكم الذين نزحوا أو نزح آباؤهم من شتى بلاد العالم إلى فلسطين، ماذا كانوا قبل ذلك؟ كانوا عراقيين، مغاربة، إيرانيين، ألمان، پولونيين. نعم كانوا عراقيين يهودا على سبيل المثال، وكما نتطلع إلى اليوم الذي يتخلى مسلمو فلسطين وعموم المسلمين عن كراهة اليهود، متى يكون كل منا إنسانا بالدرجة الأولى، ومواطنا في البلد الذي يعيشه بالدرجة الثانية، ونخلى عن التمييز بسبب الدين أو المذهب أو القومية أو اللون أو الأصل، لنكون منسجمين بعقولنا ومشاعرنا مع قيم العصر، ولا نلهج بها ونعيش نقيضها فنكون مُبْتَلَيْنَ بمرض الازدواجية. نتطلع أن تأتي أجيال من الطرفين، يكف فيها الآباء والأمهات عن تربية أطفالهم على كراهة الآخر، ويكف المعلمون والمعلمات عن تعليم تلاميذهم على معاداة الآخر، اليهودي هنا، والفلسطيني هناك. لا بد أن يأتي ذلك اليوم، وتتأسف أجيال حينئذ على ما زاوله أجدادهم تجاه بعضهم الآخر، وهذا لا يعني أني أساوي بين من جاء مغتصبا ومحتللا، وبين من اغتصب وطنه واحتل، لكننا يجب أن ننظر إلى القضية لا بعين سنة التأسيس غير الشرعي ١٩٤٨، وإنما بعين العصر ونحن في سنة ٢٠٢٣.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي