تفكك القيم الأخلاقية في العصر الحديث: مقاربة تحليلية بين الدين والفلسفة والمجتمع

محمد بسام العمري
2025 / 10 / 17

يشهد العالم المعاصر تحوّلات جذرية تمسّ البنية القيمية للمجتمعات، حيث تتزايد مظاهر الانحلال الأخلاقي، الفردانية المفرطة، ضعف التضامن الاجتماعي، وانتشار ثقافة الاستهلاك والأنانية. لم يعد الأمر يقتصر على سلوكيات فردية منحرفة، بل أصبح يشكل أزمة بنيوية تهدد التماسك الاجتماعي وتضعف الثقة بين الأفراد والمؤسسات.
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل ظاهرة تفكك القيم الأخلاقية من منظور تكاملي يجمع بين الدين والفلسفة والعلوم الاجتماعية، مع التركيز على البعد التربوي ودور التعليم في ترسيخ القيم.
كما تم إعداد هذا البحث ليكون مرجعًا أكاديميًا موجهًا للطلاب والدارسين والباحثين المهتمين بفهم علاقة الأخلاق بالتحولات الاجتماعية والفكرية في العصر الحديث، واستلهام الحلول من تراث الفكر الإنساني والديني معًا.

أولًا: الإطار النظري للمسألة الأخلاقية
من المنظور الديني، تمثل الأخلاق جوهر الرسالات السماوية، إذ يقول تعالى:
"إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ" (النحل: 90).
هذه الآية، التي تُعد من النصوص التأسيسية للأخلاق الإنسانية، تؤكد أن منظومة القيم ليست شأنًا تعبديًا فحسب، بل قاعدة للعدالة الاجتماعية والاستقرار المجتمعي.
أما من المنظور الفلسفي، فقد تناول أفلاطون الفضيلة بوصفها شرطًا لقيام المدينة الفاضلة، في حين رأى أرسطو أن السعادة تتحقق بالوسط الأخلاقي بين الإفراط والتفريط. أما كانط فقد ربط الأخلاق بالواجب العقلي القائم على مبدأ العمومية: “اعمل فقط وفق القاعدة التي تريد أن تصبح قانونًا كونيًا”.
في المقابل، حذر نيتشه من انهيار القيم المطلقة نتيجة “موت الإله”، معتبرًا أن الإنسان المعاصر يعيش في فراغ قيمي يحتاج إلى إعادة تأسيسٍ للأخلاق على أسس جديدة.

ثانيًا: التفكك الأخلاقي من منظور علم الاجتماع
يرى عالم الاجتماع إميل دوركايم أن التغيرات الاقتصادية والصناعية السريعة أدت إلى حالة من “الأنومي” أو “اللاّمعيارية”، أي غياب المعايير التي توجه السلوك الاجتماعي.
أما ماكس فيبر فاعتبر أن العقلنة المفرطة والتخصص المهني أدّيا إلى “قفص حديدي” من القوانين والإجراءات، أفقد الإنسان حسّه القيمي وأخضعه للمنفعة البحتة.
وتشير دراسات حديثة — مثل دراسة World Values Survey (2022) — إلى أن الأجيال الجديدة أصبحت تميل نحو النفعية الأخلاقية بدلًا من المثالية القيمية، حيث تُقاس الأخلاق بنتائجها لا بمبدئها.

ثالثًا: البعد الديني كمرجعية إنسانية متجددة
يظل الدين، رغم موجات العلمنة، أحد أهم مصادر الضبط القيمي، إذ يربط بين البعد الفردي للضمير والبعد الجماعي للمسؤولية.
قال النبي ﷺ: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وهو نص يؤسس لرؤية أخلاقية تتجاوز الإطار الطقوسي نحو مشروع إنساني شامل.
وفي المسيحية، ورد في إنجيل متّى (12:25): «كل مملكة منقسمة على نفسها تخرب»، مما يعكس وحدة الرؤية بين الأديان في اعتبار القيم ركيزة بقاء المجتمعات.

رابعًا: التربية والقانون كأداتين لإعادة بناء المنظومة الأخلاقية
1. التربية الأخلاقية:
التعليم ليس مجرد نقل للمعرفة، بل بناء للضمير الجمعي. يرى كونفوشيوس أن “التربية الأخلاقية هي أساس الحكم الرشيد”، ويؤكد جون ديوي أن المدرسة يجب أن تكون مختبرًا للقيم الديمقراطية، لا مجرد مؤسسة تعليمية.
كما يُبرز العلم الحديث (علم النفس التربوي والاجتماع التربوي) أهمية غرس القيم عبر النماذج والسلوك العملي أكثر من التلقين اللفظي.
2. القانون والعدالة الاجتماعية:
يؤكد توماس هوبز أن الإنسان في غياب القانون “ذئب لأخيه الإنسان”، وهو ما يبرر الحاجة إلى سلطة عادلة تحمي القيم المشتركة.
ومن الجانب الديني، جاءت الشريعة لتقنين السلوك لا لقمع الحرية، بل لتنظيمها في إطار العدالة والرحمة، كما في قوله تعالى: «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ» (البقرة: 179).

خامسًا: نحو مقاربة تكاملية للأخلاق
إن الأزمة الأخلاقية الحديثة ليست صدامًا بين الدين والعقل، بل نتيجة لغياب الحوار بينهما. فالفكر الفلسفي يمكنه أن يشرح الأسس المنطقية للأخلاق، بينما الدين يمنحها المعنى والبعد الروحي.
تظهر الحاجة إلى بناء نموذج قيمي تربوي-اجتماعي-ديني متكامل، يُرسَّخ عبر التعليم، القانون، والإعلام، ويراعي اختلاف الثقافات مع الحفاظ على المشترك الإنساني.
إن تفكك القيم الأخلاقية في العصر الحديث ليس قدرًا محتومًا، بل هو تحدٍّ قابل للمواجهة عبر استعادة الوعي التربوي والروحي، وإعادة صياغة العلاقة بين الإنسان ومجتمعه على أساس من العدالة والتكافل والكرامة.
إن هذه الدراسة موجهة بالأساس إلى الطلاب والدارسين في مجالات الفلسفة، علم الاجتماع، والتربية، لتكون منطلقًا لحوار علمي يربط بين المعرفة الأكاديمية والمسؤولية الإنسانية، ويستنهض الفكر نحو بناء عالم أكثر توازنًا وضميرًا.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي