|
|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
رياض قاسم حسن العلي
2025 / 10 / 17
في المشهد الفكري والسياسي المعاصر تحولت خطابات "أفول أوروبا" أو "انحسارها" إلى إطار تحليلي مركزي يتردد صداه داخل صالونات بروكسل وقاعات الجامعات على حد سواء. هذا الخطاب يشير إلى تراجع بطيء وتآكلي للقوة الناعمة والنفوذ الجيوسياسي للقارة العجوز. وفي صلب هذا الجدل، تبرز مقولتان تفصل بينهما نصف قرن، لكنهما تتقاسمان جوهر رؤية نقدية قاسية: بلاغة الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفراي الجارحة، وسخرية الدبلوماسي الأمريكي هنري كيسنجر اللاذعة.
●أونفراي: تشريح جثة المشروع الأوروبي على طاولة الديمقراطية
عندما أعلن ميشيل أونفراي في مطلع 2025 أن "الأوروبيين لا وجود لهم، لقد انتهى دورهم" كان يختزل نقدًا فلسفيًا وسياسيًا جذريًا للمشروع الأوروبي برمته. تحويله الاتحاد الأوروبي إلى "مجرد سوق اقتصادي" و"اتحاد للمال" هو اتهام مباشر بتجريد القارة من روحها السياسية والحضارية. يشير أونفراي إلى عملية التحول الجوهري من حلم تأسيسي كان يطمح إلى "وحدة ever closer -union-" كما نصت معاهدة روما، إلى كيان تكنوقراطي تهيمن عليه حسابات الميزانية والليبرالية الاقتصادية المتطرفة.
وقصة الاستفتاءات الفرنسية والهولندية عام 2005، التي رفضت الدستور الأوروبي، ثم إحياء جوهره عبر معاهدة لشبونة 2007 التي لم تُعرض للاستفتاء في معظم الدول، ليست مجرد حادثة عابرة في نظر أونفراي. إنها "الجريمة الأصلية" للاتحاد. فهذه الخطوة مثلت لحظة فاصلة تم فيها تهميش الإرادة الشعبية بشكل صارخ لصاق النخب التقنية والمالية في بروكسل وفرانكفورت وبرلين. بذلك، يرى أونفراي أن الشرعية الديمقراطية للمشروع الأوروبي قد شُوهت من المنبع، مما خلق فجوة سحيقة لا تُردم بين المؤسسات والمواطن، وجعلت من «المواطن الأوروبي» مجرد وهم قانوني بلا إرادة سياسية حقيقية.
●كيسنجر: السخرية التي كشفت الفراغ الاستراتيجي منذ سبعينات القرن الماضي
أما سؤال كيسنجر الساخر قبل خمسة عقود: "ما هو رقم الهاتف الذي يمكن الاتصال به إذا أرادت الولايات المتحدة أن تتحدث مع أوروبا؟" فهو يشخص اعراضا مختلفة لنفس الداء. إذا كان نقد أونفراي يركز على الأزمة الداخلية (التمثيل الديمقراطي)، فإن سؤال كيسنجر يسلط الضوء على الأزمة الخارجية (التمثيل الجيوسياسي).
كانت السخرية تعكس إحباط واشنطن من عدم قدرتها على التعامل مع كيان موحد ومسؤول في المجالين السياسي والعسكري. ففي أوج الحرب الباردة، كانت أوروبا الغربية حليفًا اقتصادياً وعسكرياً بالغ الأهمية، لكنها ظلت تابعة استراتيجيًا. لقد كشف السؤال عن حقيقة مفادها أن أوروبا، رغم ثقلها الاقتصادي، كانت مجموعة من الدول ذات أولويات متباينة، تفتقر إلى آلية خارجية وسياسة أمنية موحدة تجعلها "فاعلاً" مستقلًا وليس "رديفًا". واليوم، ورغم إنشاء منصب الممثل السامي للشؤون الخارجية، يظل هذا السؤال ملحًا في ظل الأزمات الدولية، حيث تتخذ عواصم أوروبية كبرى قراراتها بشكل منفرد غالبًا قبل التنسيق مع بروكسل.
●الجذر المشترك: الفجوة الهيكلية بين الاقتصاد والسياسة
وراء هذه البلاغة النقدية المتباعدة، تكمن إشكالية واحدة جوهرية: الفجوة الهيكلية بين القوة الاقتصادية الهائلة وأزمة التمثيل السياسي، داخليًا وخارجيًا.
الداخلي: ديمقراطية بلا ديموس (شعب) حيث يُدار التكامل الأوروبي بمنطق إداري تقني يفضل الكفاءة والاستقرار النقدي على المشاركة الشعبية. المؤسسات الأوروبية (المفوضية، البنك المركزي) قوية وفعالة، لكنها بعيدة عن النقاش العام المباشر. هذا يخلق ما يسمى "العجز الديمقراطي"، حيث يشعر المواطنون أن القرارات المصيرية (التقشف، الهجرة، الطاقة) تُفرض عليهم من فوق، مما يغذي الشعبوية واليوروسيكية (الشكوكية تجاه الاتحاد الأوروبي).
· الخارجي: قوة اقتصادية بلا إرادة استراتيجية حيث ظل الاتحاد الأوروبي رهينًا للإطار الأمني الذي يهيمن عليه حلف الناتو، وبالتالي الولايات المتحدة. لقد حدّ هذا من قدرة أوروبا على تطوير هوية استراتيجية مستقلة تعكس مصالحها الخاصة بشكل كامل. الأزمات المتعاقبة، من البلقان إلى أوكرانيا، أظهرت الحاجة الملحة لهذه الاستقلالية، لكن تحقيقها يصطدم بتباين الأولويات الوطنية والتبعية التاريخية للأمن الأمريكي.
●ما وراء خطاب "الأفول": أزمة هوية وشرعية لا انهيار مادي
إن وصف الحالة بأنها "أفول" قد يكون دراماتيكيًا، لكنه مفيد إذا فهمناه ليس بمعنى الاختفاء، بل بمعنى "التغيير" و"فقدان المركزية". أوروبا ليست لا شيء؛ فهي لا تزال قوة اقتصادية كبرى، ومتحف العالم الحيوي، ومخزونًا حضاريًا وتاريخيًا هائلاً. التحدي الحقيقي الذي يكشفه خطاب الأفول هو أزمة الهوية والشرعية.
التحدي المطروح هو كيف تتحول أوروبا من كونها "ناديًا ماليًا: متطورًا، أو :فضاءً اقتصادياً" مغلقاً، إلى "مشروع سياسي" حقيقي. مشروع ينجح في بناء شرعية داخلية جديدة عبر إعادة اختراع الديمقراطية على المستوى فوق الوطني، وإيجاد سبل حقيقية لمشاركة المواطن في صنع القرار الأوروبي، ربما عبر تقوية البرلمان الأوروبي أو آليات الديمقراطية المباشرة.
وينجح كذلك في صياغة استقلالية استراتيجية من خلال تطوير قدرة دفاعية ودبلوماسية موحدة تمكنها من الدفاع عن مصالحها في عالم متعدد الأقطاب، حيث التنافس بين الولايات المتحدة والصين وروسيا يفرض عليها أن تكون لاعبًا وليس رقعة في لعبة الآخرين.
وايضا ينجح في المزاوجة بين القيم والمصالح من خلال إعادة تعريف دورها كقوة ناعمة قائمة على قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكن بطريقة واقعية تدرك متطلبات القوة في نظام دولي قاس.
الأفول فرصة للنهضة؟
إن "أفول أوروبا" الذي يتحدث عنه أونفراي وكيسنجر يُقاس بالضرورة بقدرة القارة على إعادة اختراع عقدها الاجتماعي والسياسي. إنها مسألة شرعية أكثر منها مسألة قوة. القدرة على خلق توازن جديد بين إرادة الشعوب وحاجات السوق، وبين الاستقلالية الاستراتيجية وضرورات التحالف في نظام دولي مضطرب.
عندها فقط، يمكن لأوروبا أن تتحرر من صورة "العملاق الاقتصادي والقزم السياسي"، وأن تستعيد موقعها كفاعل حضاري استراتيجي حقيقي، يمتلك أخيرًا "رقم هاتف" واضحًا، والأهم من ذلك، يمتلك الإرادة والشرعية لردّ على من يتصل به.
|
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |