|
|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
حسين علي محمود
2025 / 10 / 16
يقول جورج كارلين :
"الوعي هو أن تدرك أن فقرك ليس قلة حظ، بل نتيجة خطة، إنهم لا يريدونك مواطناً متطوراً، بل عاملاً منهكاً. فالشخص المشغول بالبقاء على قيد الحياة لا يملك وقتاً للمطالبة بحقوقه."
هذا القول لا يمكن قراءته كمجرد نكتة سوداء أو نقد ساخر للنظام الرأسمالي، بل كمدخل فلسفي وسوسيولوجي لفهم البنية الذهنية التي تُنتج الخضوع الاجتماعي.
هنا، كارلين يلامس جوهر ما وصفه بيير بورديو بـ"العنف الرمزي"، أي تلك الآليات غير المرئية التي تعيد إنتاج الفقر والتبعية عبر أدوات ناعمة كالثقافة، والإعلام، والتعليم، والعمل.
إن الفقر، وفق هذا المنظور، لا يختزل في غياب المال، بل يتجلى كبنية ذهنية ونفسية تدار بإتقان لإبقاء الإنسان في حالة إنهاك دائم، فحين يصبح البقاء هو الهدف الأسمى، يتعطل التفكير النقدي، ويتحول الوعي من أداة للتحرر إلى وسيلة للبقاء. إنها، بتعبير هربرت ماركوز، حالة "الإنسان ذي البُعد الواحد" الذي لا يرى من العالم سوى الضروري لاستمراره.
من الزاوية النفسية، تشير دراسات علم النفس الاجتماعي إلى أن الحرمان المستمر يخلق ما يعرف بـ "الاحتراق الوجودي"، وهي حالة من الإنهاك الداخلي تفقد الإنسان قدرته على الحلم أو الثورة، فالعقل المنهك لا يفكر، بل يتكيف.
وهنا يتحول الفقر من حرمان مادي إلى تجويع للكرامة والإرادة.
أما على المستوى الاجتماعي والسياسي، فالفقر يدار كأداة ضبط، لا كخلل اقتصادي، فالمجتمع النيوليبرالي يقوم على ما يسميه علماء الاجتماع "الإشباع المؤجل"، أي منح الأفراد جرعات من الأمل الزائف تكفي لإبقائهم في حالة سعي دائم، من دون بلوغ حقيقي، وهكذا يصبح الفقر وظيفة بنيوية للنظام، وسيلة للحفاظ على اتزانه واستمراريته.
ولعل أخطر ما في هذه المنظومة أنها لا تكتفي بصناعة الفقر، بل تصنع القبول به، عبر خطاب ثقافي متكامل يُعيد تشكيل الوعي الجمعي. فوسائل الإعلام، ومناهج التعليم، وحتى الخطابات الدينية والمؤسسات الأخلاقية، تُسهم في تطبيع الفقر بوصفه نتيجة طبيعية للتفاوت في القدرات أو "ابتلاءً إلهيًا"، وليس كنتاجٍ لعلاقات قوة غير متكافئة.
هنا يتجلى ما يسميه أنطونيو غرامشي بـ "الهيمنة الثقافية"، أي السيطرة على العقول قبل السيطرة على الموارد. فحين يقتنع الناس بأن مواقعهم الطبقية قدر لا يُغيّر، تصبح المقاومة ضربًا من العبث، ويُعاد إنتاج النظام من داخل وعي المقهورين أنفسهم.
وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى "الوعي الزائف" بوصفه أخطر أشكال الاستلاب، إذ يُفرغ الإنسان من قدرته على مساءلة ما حوله. إنه وعي مُدار ومُصمَّم بعناية، لا يفرضه القهر المباشر، بل يُغرس في النفس عبر منظومة الرموز والإعلانات والأحلام الجاهزة. فالفرد في المجتمع الاستهلاكي، كما يرى زيغمونت باومان، يُربّى على "الاشتهاء الدائم" بدل الفهم الدائم، وعلى البحث عن ذاته في ما يملك لا في ما يكون، ليبقى في دائرة الحاجة والقلق، وهي الدائرة التي تحفظ للنظام حيويته واستمراريته.
إنّ ما يطرحه كارلين يتجاوز نقد الرأسمالية بوصفها نظامًا اقتصاديًا إلى فضحها كمنظومة قيمية وأخلاقية تُنتج الإنسان على مقاس السوق. فالإنسان لم يعد كائنًا حرًّا يسعى إلى المعنى، بل مُستهلكًا يسعى إلى البقاء داخل اللعبة. ولذا، فإن استعادة الوعي لا تعني فقط إدراك الظلم، بل تفكيك الخطاب الذي يبرر هذا الظلم. وهذا ما يجعل من الفلسفة والاجتماع والنقد الثقافي أدوات للمقاومة بقدر ما هي أدوات للفهم.
إن مقاومة الفقر المعاصر ليست في الثروة وحدها، بل في القدرة على إعادة تعريف الغنى نفسه: أن يكون الغنى في الوعي، والقدرة على السؤال، والرفض، وإنتاج بدائل معرفية تعيد للإنسان مركزه في العالم. فالتحرر لا يبدأ من الجيب، بل من اللغة التي نصف بها أنفسنا والعالم. واللغة، كما يقول ميشيل فوكو، ليست أداة للتعبير فحسب، بل أداة للسلطة، ومن يمتلكها يمتلك تعريف الحقيقة.
من هنا، تصبح مهمة الوعي الجمعي هي كسر هذا التواطؤ الخفي بين السلطة والفقر، بين الخطاب والواقع. فالفقر ليس قدراً، بل بناء اجتماعيٌّ محكم الأركان، لا يُفكك إلا حين يعي الفقير أنه ليس وحده في معركته، وأن "النجاة الفردية" وهمٌ آخر من أوهام السوق.
وعند هذه اللحظة، يتحول الوعي من معرفة إلى قوة تحرر، ومن إدراك إلى فعل مقاومة، فليس أخطر على الأنظمة من إنسانٍ يفتح عينيه جيدًا على ما أرادوا له أن لا يراه.
من منظور أدبي وفلسفي، يمكن قراءة هذا النص كصرخة وجودية ضد العبودية الحديثة، حيث يختزل الإنسان إلى ترس في آلة ضخمة، يُنتج ويستهلك ولا يعي ذاته.
إنها عبودية ناعمة، تحكم لا بالسلاسل الحديدية، بل بقيود الوعي المزيف.
حين يقتنع الفقير بأن بؤسه قدر، يصبح هو السجان والمعذب في آنٍ واحد.
في ضوء ذلك، يمكن القول إن معركة الإنسان المعاصر لم تعد فقط مع الجوع، بل مع المنظومة التي تعيد إنتاج وعي الجوع.
وحين يقول كارلين إنهم لا يريدونك مواطناً متطوراً، فهو يوجز الحقيقة كلها: فالمواطن الواعي يُسائل، والمثقف يُشكك، والمستنير لا يُقاد.
لذلك، فإن أول أشكال المقاومة ليست اقتصادية، بل معرفية. أن تدرك أن الفقر سياسة، وأن استعادة الوعي هي الفعل الثوري الأول، لذا التحرر يبدأ من العقل الذي يفهم من يُفقِره، وكيف، ولماذا.
|
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |