-تبادل الأسرى... عدالة مقلوبة وكرامة معلَّقة-

سناء عليبات
2025 / 10 / 16

ليست الموازين هي التي اختلّت، بل الوعي الذي قاس بها معنى القوة. فما يحدث ليس تفاوتًا في السلاح، بل تفاوتًا في الإدراك: هناك من يرى في الدمّ شرطًا للكرامة، وهناك من يراه عبئًا على المفاوضة. الكيان لم يحتفظ بمن أراد فحسب، بل أعاد ترتيب المشهد بما يُبقيه سيّد التوقيت، مُمسكًا بخيوط الخسارة والنصر معًا، فيما الأسرى الحقيقيون ما زالوا خلف القضبان، لا في انتظار صفقة، بل في انتظار عودة الوعي من غيبوبته.
ذلك المشهد الذي دوّى في العالم بالتصفيق والبيانات، ليس إلا وجهًا ناعمًا لانكسارٍ عميق: إذ تُقدَّم “الإنسانية” كمنحة من المُحتلّ، لا كحقٍّ منبثق من المقاومة. هنا، لا يكون الاختلال في موازين القوى، بل في تحوّل المأساة إلى فرجةٍ دبلوماسية، والوعي إلى مادة قابلة للتسويق السياسي.
عرض ترامب الأخير لا يُقرأ في لغة السياسة، بل في منطق الهيمنة: حيث تُصاغ المعادلات الأخلاقية على مقاس السوق، وتُختزل معاناة الأسرى إلى فرصةٍ لتبييض صورة الجلّاد وتطويع الضحية. العرض في جوهره ليس صفقة لتبادل الأجساد، بل صفقة لتبادل المعاني؛ إذ يُراد للمقهور أن يقتنع بأن إنقاذ الجسد أولى من تحرير الوعي، وأن البقاء شكلٌ من أشكال الانتصار.
منذ أن صار الجسد الفلسطيني بندًا في التفاوض، فقدت المقاومة بعض سرّها. الجسد الذي كان علامة على الصمود تحوّل إلى رهينة بين يدي الخطابين: خطابٍ عسكريٍّ يرفع شعار الثبات، وخطابٍ سياسيٍّ يسوّغ التراجع بلغة الواقعية. هنا، لا ينقسم الفعل المقاوم بين جناحين، بل ينشطر الوعي بين يقينين متنازعين: يقين النار ويقين اللغة. وحين يصبح الوعي إدارةً للأزمة لا اشتعالًا في جوهرها، ينقلب التحرّر إلى وظيفةٍ من وظائف السلطة.
الأسير الفلسطيني ليس مجرّد ضحية، بل ضميرٌ مؤجَّل للأمة. كلّ عامٍ يمرّ في السجن هو عام يُضاف إلى عمر القضية، وكلّ صفقةٍ مشروطة هي محاولةٌ لإفراغه من رمزيّته. فحين تُحرَّر الأجساد وتُبقى المعاني معتقلة، لا تكون الصفقة تحريرًا، بل إعادة صياغةٍ للهزيمة في هيئة نصرٍ مؤقت.
الهزيمة الحقيقية لا تسكن في الميدان، بل في الوعي الذي يتصالح معها. ذلك الوعي الذي يقيس النصر بعدد التصريحات لا بعدد التضحيات. كلّ مقاومةٍ تفقد وعيها بذاتها تتحوّل إلى ظلٍّ للعدوّ، تنطق بلغته وتبرّر منطقه. ومن هنا يصبح أخطر ما يمكن أن يصيب شعبًا مقهورًا، هو أن يتوهّم أنه انتصر لأنه ما زال يتكلّم باسم الهزيمة.
لكن التاريخ لا يُقفل دفاتره بالصفقات. فسيخرج مروان وسعدات، لا من زنازينهم فقط، بل من طبقات الوعي المأسور، ليعيدوا إلى الفعل المقاوم روحه الأولى: أن يكون احتجاجًا على العدم، لا استجابةً للابتزاز. إنّ الحرية لا تُمنح، ولا تُنتزع بالورق، بل تُستعاد كوعيٍ بالكرامة وسط الركام.
فالنصر ليس حدثًا عسكريًا، بل لحظة وعيٍ تستردّ فيها الشعوب قدرتها على تسمية الأشياء بأسمائها: أن تقول للهزيمة إنها هزيمة، وللمساومة إنها عار، وللحرية إنها فعلٌ لا يقبل الترجمة إلى لغة السوق.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي