|
|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
قحطان الفرج الله
2025 / 10 / 15
من يكتب سيرته لا يروي عمره فحسب، بل يوقظ الأمكنة التي ربّته، وينصت إلى رفيف الذاكرة وهي تعيد ترتيب العالم على مهلٍ في قلبه. فالسيرة، في معناها الأعمق، ليست استدعاءً للماضي، بل تربية للحاضر ومصالحة مع الذات، عرفتُ الدكتور مهدي محسن العلاق عن قرب، حين عملنا معًا في الأمانة العامة لمجلس الوزراء إبّان حكومة الدكتور حيدر العبادي، وكان هو الأمين العام للمجلس، وكنت أحد العاملين في فريقه. وما زلت أذكر كيف كان العمل معه تجربة أخلاقية قبل أن تكون وظيفية؛ إذ جمع بين انضباط الخبير ورهافة الإنسان، يوجّه من دون صخب، ويقنع من دون سلطة، فيغدو الحزم لديه قرين الرحمة، والدقة وجهًا من وجوه الإيمان بالواجب العام.
لم يكن المنصب عنده امتيازًا، بل عبئًا يؤديه بحسٍّ عالٍ من المسؤولية. كان يدخل مكتبه كما يدخل المؤمن محرابه، نظيف النية، واضح الخطى، مشغولًا بسلام الناس أكثر من صخَب السياسة. ومن خلاله تعلّمت أن الإدارة يمكن أن تكون مدرسة في الأخلاق، وأن الثقة تُبنى على الصدق لا على الأوامر، وحين صدر كتابه الجميل «كولي كمب CC»، شعرت أني أقرأ سيرة الوطن في إنسانٍ واحد. ففي ثنايا حكايته عن أبيه وأمه وأهله، تتجلّى صورة العراق التي آمن بها: بلدٌ تنوعه ثراءٌ لا انقسام، واختلافه رحمةٌ لا خصومة. في تلك الصفحات، تستعيد الذاكرة نكهة الطين وهمس الماء ودفء الجيرة. كتب يقول:
«لم تكن رحلة أبي إلى سن الذبان رحلة عملٍ موسميٍّ يعدّ أيامه ويرجع بما قسم الله، بل استقرارًا ينمّ عن رغبة في التوطن على أرضٍ شاءتها إرادة الله وظروف العيش».
كأن الأب في سرده رمزٌ لجيلٍ حمل العراق على كتفيه ومهّد لتكوّن روح الجماعة في وجه الغربة والعوز. ويمضي العلاق متأملًا في تنوّع الناس الذي شكّل نسيج الحياة في كولي كمب: «هكذا في بقعةٍ من أرض لواء الدليم، تمارس مجموعة صغيرة واحدة من شعائرها بصدرٍ رحب، وباحترامٍ وتعاطفٍ من رجال المنطقة ونسائها… لم يكن في تلك الأرض غريب، بل كان الجميع من طينٍ واحد».
ذلك العمق الإنساني هو ما يجعل من «كولي كمب» أكثر من مذكراتٍ عائلية؛ إنها وثيقة وجدانية في السلم الأهلي، ودعوة لأن نستعيد إنساننا قبل أن نعيد بناء مدننا. ففي كل صفحةٍ منها يتسلّل ضوء الأمكنة العراقية التي فقدناها شيئًا فشيئًا تحت ركام الإسمنت المتشابه.
ألهمتني تجربة الدكتور العلاق أن أتأمل معنى السيرة الذاتية من زاوية المكان. فالمكان هو الذاكرة الأولى، وهو الذي يصنع تمايز الناس والبيوت. غير أن زمننا هذا — كما قلت لصديقٍ ونحن نتوه في زحام المدن — جعلت الأمكنة متطابقة إلى حدّ التنافر، حتى صرنا لا نفرّق بين “أم الكبر والغزلان” فلا غزال فيها و“أم الخنازير”، فلا خنزير فيها !!!لا فرق إلا في الاسم فالناس هم الناس . ضاعت ملامح التنوع التي كانت تُثري الوجود وتؤنس الوحدة.
جعل كل الأمكنة متشابهة حتى غدت المدن نسخةً من المدن، والوجوه ظلًّا لبعضها. ضاع الغنى الذي كان يجعل المدينة تُسمّى على اسم نبعها أو نخيلها أو طيرها، وصار الناس كأنهم يسكنون في مرايا لا في بيوت.
في سيرة العلاق يتجلّى جمال الاختلاف، لا بوصفه انقسامًا، بل وفاءً للطبيعة الأولى للإنسان والوطن؛ تلك الطبيعة التي تتّسع للألوان، وتُحسن الظنّ بالآخر، وتجد في التنوّع نعمة لا نقمة. ولذلك ظلّ أثره فينا، في زملائه وتلامذته، أن نكتب سيرتنا كما نعيشها، ونعيش مناصبنا كما لو كنّا نكتب سيرةً تُقرأ بعدنا.
هذا هو الدرس الذي تركه في العمل وفي الحياة، وهو نفسه الذي تسكنه فصول «كولي كمب»؛ الكتاب الذي خطّه رجل دولةٍ بقلب ابنٍ وفيّ، جمع في ذاكرته بين الحنين والكرامة، وبين الطين والسماء.