|
|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |

قاسم محمد داود
2025 / 10 / 15
في مطلع القرن العشرين، أبدعت القوى الاستعمارية مصطلحًا يُخفي أكثر مما يُفصح: الانتداب الدولي. كان الاسم لطيفًا، لكن المضمون فجًّا — سلطة أجنبية تدير أرضًا ليست لها، بحجة “تهيئة أهلها للحكم الذاتي”. وهكذا وُضِعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني عام 1920، فبدأت مرحلةٌ طويلة من الوصاية التي منحت بريطانيا حق إدارة البلاد، وسنّ القوانين، وتحديد مصير الأرض والسكان. كانت النتيجة أن أُعدّ المسرح لقيام إسرائيل، وتحوّل “الانتداب” إلى أداةٍ لإعادة تشكيل الجغرافيا والسيادة معًا، تمهيداً لقيام دولة إسرائيل تحت إشراف سلطة الانتداب البريطاني، التي لم تكتف بدورها الإداري المؤقت، بل تحوّل إلى أداة استغلالية لإعادة تشكيل الجغرافيا والسيادة. سياساتها لم تراعِ حقوق الفلسطينيين، بل سهّلت هجرة الصهاينة، وأنشأت مستوطنات على حساب القرى العربية، وغيّرت معالم الأرض لصالح مشروع استيطاني يضعف المكوّن العربي ويقيّد قدرة الفلسطينيين على تقرير مصيرهم. كان الانتداب، بذلك، ليس مجرد إدارة مؤقتة، بل عاملًا مركزيًا في تقويض الحقوق الوطنية وتحويل فلسطين إلى ساحة لتحقيق أهداف استعمارية وسياسية أجنبية."
اليوم، بعد أكثر من قرن، يعود المفهوم ذاته بثوبٍ جديد، تحت لافتة “خطة السلام” أو “الإدارة الانتقالية”. فحين تتحدث خطة ترامب المعدّلة عن تسليم إدارة غزة إلى حكومة فلسطينية تكنوقراطية تحت إشراف دولي، وبقيادة “مجلس سلام” برئاسة ترامب نفسه، فإننا عمليًا أمام نسخة محدثة من الانتداب القديم — ولكن بلغة أكثر دبلوماسية، وأدوات أكثر نعومة. فالخطة، في جوهرها، تنزع السيادة من الفلسطينيين بحجة “الاستقرار” وتسلّم مفاتيح الإدارة والقرار إلى جهات خارجية تتحكم في المعابر والمساعدات والإعمار، وتراقب الأمن، وتقرر ما يجوز وما لا يجوز.
إنها وصاية سياسية واقتصادية مقنّعة، تضع غزة بين أيدي الوسطاء الدوليين لتُدار كما تُدار الأقاليم الخاضعة للرقابة الدولية، لا كأرضٍ لشعبٍ حرّ يسعى إلى تقرير مصيره. بهذا المعنى، نحن أمام انتقال من الاحتلال إلى الانتداب، لا إلى الاستقلال. تتبدل الأسماء من “قوات” إلى “مجالس”، ومن “قواعد” إلى “هيئات”، لكن النتيجة واحدة: القرار الفلسطيني يُعلّق مؤقتًا باسم السلام، فيتحول “الانتداب” من جندي يحمل بندقية إلى موظف يحمل تفويضًا دوليًا. وغزة — في هذه الصيغة — تُختزل من وطنٍ محاصر إلى ملفٍ إداريٍّ متنازع عليه، يُدار بأيدي الخارج تحت ذريعة إعادة الإعمار وضبط الأمن. ذلك هو جوهر “الانتداب الناعم”: أن تُدار أرضك بقرارات الآخرين، دون أن يطلق أحدٌ رصاصة.
قد يحقق المشروع أو "خطة السلام" وقفًا طويلًا لإطلاق النار، ويمنح سكان غزة فترة هدنة تعيد شيئًا من الحياة المدنية. يفتح الباب أمام إعادة الإعمار وتدفق المساعدات بإشراف منظم، بعيدًا عن الحصار والانقسام. يمكن أن يُخفّف من وطأة الأزمة الإنسانية، ويمهّد لبيئة سياسية أكثر استقرارًا — إن حَسُنت النوايا وتوفّرت الرقابة الدولية النزيهة.
لكنه في المقابل ينزع جوهر السيادة الفلسطينية، ويحوّل القرار الوطني إلى مسألة إدارية بيد الخارج. يُفرّغ القضية من مضمونها التحرّري، ويُعيد إنتاج التبعية الاقتصادية والسياسية بشكلٍ جديد. يخلق واقعًا رماديًا قد يدوم لسنوات، يُجمّد الصراع بدل أن يحلّه، ويُعيد تعريف "السلام" كنوعٍ من "الإدارة المحكومة" لا العدالة. كما استخدم الانتداب البريطاني فلسطين ساحةً لإعادة تشكيل الجغرافيا والسيادة على حساب أهلها، تأتي خطة ترامب اليوم كنسخة حديثة من هذا الانتداب، ترسم واقعًا رماديًا قد يستمر لسنوات، يجمّد الصراع بدل أن يحلّه، ويحوّل السلام إلى مجرد إدارة محكومة تتحكم بمصير الفلسطينيين، بعيدًا عن العدالة الحقيقية، وكأن حقوقهم وتاريخهم أصبحا مادة قابلة للتقسيم والجدولة وفق إرادات خارجية.
قد يمنح “الانتداب الناعم” غزة فرصة لالتقاط الأنفاس، لكنه لا يمنحها حرية القرار. إنه استراحةٌ تُدار من الخارج، وليست ولادةً لسلامٍ من الداخل. وإذا لم يُدرك الفلسطينيون والعرب أن السيادة لا تُستعار — بل تُنتزع — فسنجد أنفسنا نحتفل بالهدوء، بينما تُدار أوطاننا من غرفٍ مغلقة وراء البحار.
|
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |