|
|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |

أكرم شلغين
2025 / 10 / 11
تذكرت تشارلز ديكنز، ذلك الساحر الذي كان يعرف كيف يُنصت لخطوات العمر وهي تمضي ببطء داخل الإنسان، ثم يحوّلها إلى حكاية. في أعماله، يبدو الكبار وهم يستعيدون ما مضى كأنهم يمسكون بخيوط الزمن بأطراف أصابعهم المرتعشة، يخافون أن تنفلت منهم اللحظة التي تمنح معنى لما تبقى من حياتهم. يتحدثون وكأنهم يسردون وصايا للبشرية، لكنّهم في العمق يحاولون أن يقنعوا أنفسهم بأن ما عاشوه لم يذهب سدى.
وفي لحظة أخرى، تذكّرت قول والدة أحد الأصدقا: لروحها الرحمة ـ "هنيئا لمن يولد الآن حديثا على هذه الدنيا، سيرى ما حُرمنا نحن منه"، قالتها وهي تهز رأسها بإيماءة يختلط فيها الحنين بالأسى، كأنها تودّع العالم قبل أن يودّعها. كانت عبارتها أشبه بمرآة تعكس خوف الإنسان الأزلي من الزمن، من مرور الأيام دون أن يترك أثرا أو يجدّد شبابه الذي كان يوما وقود أحلامه.
تساءلت بيني وبين نفسي: كم جيلًا قبلنا فكّر الفكرة ذاتها؟ كم إنسانًا وقف على حافة عمره وقال: "لو أنني وُلدت بعد عشرين عاما، لرأيت ما هو أعجب وأجمل"؟ ومع ذلك، مضت الأجيال كما تمضي الأمواج: كل واحدة تحسد التالية، وكل تالية تندم بعد حين.
إنّ البحث عن الخلود، أو على الأقل عن شباب لا يذبل، هو الوهم الأكبر الذي يرافق الإنسان منذ فجر التاريخ. من أسطورة جلجامش إلى مختبرات العلماء اليوم، ما زال الإنسان يحلم بأن يتحدى الموت والزمن معا. لكن هل فكرنا يوما في عالَم لا يشيخ فيه أحد؟ كيف ستكون حال الأرض لو سكنها بشر شبابهم سرمدي، لا يعرفون تعبا ولا فناء؟
ربما ستمتلئ الأرض حتى تختنق، وربما يفقد الحب معناه إذا لم يكن هناك خوف من الفقد، وربما تصبح المغامرة بلا طعم إذا لم يكن فيها رهان على نهاية.
الشيخوخة — رغم قسوتها — هي ما يمنحنا إنسانيتنا. فالمحدودية تجعل كل لحظة ثمينة، وكل ذكرى تستحق أن تروى كما كان يفعل شخوص ديكنز. ولو كان العمر سرمديا، لما كتب أحد رواية، ولا شعر أحد بندم، ولا قال أحد لابنه: عشْ ما استطعت، فالحياة قصيرة.
ربما علينا، بدل أن نفكر لو أننا ولدنا فيما بعد، أن نشكر حقيقة أننا وُجدنا الآن، في هذه اللحظة من التاريخ، نحمل ذاكرة الأجيال التي سبقتنا، ونترك شيئا لمن سيأتي بعدنا. فالخلود الحقيقي — كما أدركه الأدباء الكبار — ليس في أن تبقى أجسادنا شابة، بل في أن تبقى حكاياتنا تروى بعدنا، بصوت يشبه صوت الكبار حين يحكون، وبحسرة دافئة كإيماءة تلك الأم التي قالت عبارتها ومضت.
|
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |