|
|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |

أكرم شلغين
2025 / 9 / 30
في لحظات الانكسار، كثيرا ما تلجأ الشعوب إلى الماضي طلبا للعزاء أو بحثا عن وصفات جاهزة للخلاص. غير أن التاريخ، وإن كان خزانا للحكمة، ليس كتاب تعليمات يصلح لكل زمان ومكان. عصر النهضة في أوروبا مثلا قام على استعادة التراث الإغريقي والروماني، لكن تلك العودة لم تكن ترفا جماليا أو حنينا أجوف؛ لقد كانت مخرجا من مستنقع الحروب الدينية الطاحنة التي فتكت بالمجتمعات الأوروبية في العصور الوسطى. فالثقافة الإغريقية مثلت أفقا عقلانيا جديدا يتيح للإنسان أن يتجاوز دوامة الدم المقدس ويصوغ إنسانية أكثر رحابة. وكما يقول المؤرخ جاك لوغوف: "الماضي ليس سجنا بل مختبرا لتجارب لا يمكن استنساخها، وإنما يمكن الإفادة من روحها". نعم، لقد عادوا الى التراث الاغريقي والروماني حيث وجد المفكرون فيه مَلْجأً من الوحشية باسم المقدس. لم يعودوا إلى أفلاطون ليعيدوا بناء معبد، بل ليعيدوا اكتشاف الإنسان. لم يحتفلوا بفيثاغورس ليعيدوا طقوسا غابرة، بل ليذكروا العالم أن العقل، لا السيف، هو طريق الحقيقة. كانت عودتهم إلى الماضي خلاصا من الماضي نفسه، لأن ما استعادوه كان نور العقل، لا ظلام التعصب. وقول أحدهم يلخص ذلك: "لم نعد إلى أثينا لنسكن فيها، بل لنستعر منها المشاعل التي تضيء طريقنا إلى روما جديدة، لم نكن لنحلم بها من قبل."
أما في حالتنا، فإن الماضي الذي يراد التغني به اليوم لا يحمل تلك الروح الإنسانية، بل على العكس: هو ماض يقوم على نصوص مغلقة وتقاليد متصلبة تحض على القتل وسفك الدم لكل مختلف. وخصوصا في واقعنا السوري المثخن بالجراح، فالوضع مختلف جذريا. فليس الماضي الذي يُتغنى به اليوم هو ذلك الذي يحمل بذور التنور، بل غالبا ما يكون ذلك الماضي المزيف، المستغل، المستحضر لشرعنة القتل. يستدعى التاريخ لا ليعلمنا، بل ليبرر لنا. يستشهد بالنصوص لا للفهم، بل للإقصاء. ويرفع شعار "العَودة" لا لاسترداد الكرامة، بل لاستعادة سيف صدئ، كتب عليه: "الموت لكل مختلف". نعم، هناك فارق بين من يعود إلى الماضي ليحيي روح التسامح عند ابن رشد، وبين من يعود إليه ليحيي فتنة السيف بين الصحابة. بين من يقرأ الجاحظ ليتعلم كيف يجادل خصمه بعقل وسخاء، وبين من يقرأ التاريخ ليعلم أبناءه كيف يقتلون باسم "الهوية". الماضي ليس كتلة واحدة. فيه النور، وفيه الرماد. والمسألة ليست في "العودة"، بل في أي الماضي نعود إليه؟ ولأي غاية؟ سأقتبس بما قاله الراحل محمود درويش ذات مرة: "ليس المهم أن نعود، بل أن نعود مختلفين."
والاختلاف الذي ننشده اليوم ليس في اللباس أو اللهجة، بل في الرؤية: أن نرى في الآخر شريكا، لا عدوا. أن نرى في التنوع غنى، لا خطرا. أن نرى في المستقبل وطنا، لا مقبرة جديدة. الماضي كتابٌ مفتوح، نعم. لكن لا ننسَ أن بعض صفحاته كتبت بدم الأبرياء،
وبعضها الآخر كتبت بنور العقول. فلنختر ما نقرأ، ولنختر لماذا نقرأ...! يبدو أن من يريد العودة إليه ليس خلاصا من بحر الدماء بل دعوة لفتح أنهار جديدة منها. المفكر أنطون مقدسي حذر من هذه المفارقة حين قال: "لماضي يضيء لنا الطريق شرط ألا نغرق في غبار أطلاله" والمفارقة هنا أننا لا نغرق فقط في الأطلال، بل في إعادة إنتاج أدوات القتل ذاتها.
العالم الذي نعيش فيه اليوم ليس عالم القرون الوسطى، إنه عالم "تسارع الأفكار" كما يسميه ألفين توفلر في كتابه "صدمة المستقبل" فكار تتصارع، ابتكارات تولد وتموت كل يوم، تقنيات تغيّر شكل الإنسان وعلاقاته بالعالم. في مثل هذا السياق، العودة إلى الماضي الدموي أشبه بمحاولة مواجهة سيارة سباق عبر حصان خشبي.
إن السؤال المركزي الذي يجب أن يطرحه السوريون على وجه الخصوص ـ والعرب عموما ـ هو ليس "كيف نعيد الماضي؟" بل "كيف نبتكر مستقبلا يليق بكرامة الإنسان؟". النهضة الحقيقية لا تقوم على استنساخ الأمجاد أو على استدعاء العنف المقدس أو على الكراهية والحض على قتل الآخر، بل على الشجاعة في الخلق والجرأة في التجديد. فكما قال نيتشه: "علينا أن نخلق قيماً جديدة، لا أن نبقى أسرى قيم وُلدت لظروف غير ظروفنا".
بهذا المعنى، النظر إلى المستقبل ليس ترفا فكرياً، بل شرط وجودي. أي مشروع نهضوي يبدأ من إعادة تعريف علاقتنا بالزمن: الماضي للتأمل، الحاضر للعمل، والمستقبل للخلق. وسوريا، التي عرفت في تاريخها الطويل كيف تنهض من الرماد مرات عدة، لا تحتاج أن تستعيد نصوصا قديمة لتعلم في المدارس والجامعات بقدر ما تحتاج أن تصوغ نصوصها الجديدة؛ نصوصاً قادرة على أن تعبر عن جيل يعيش بين الحروب والتكنولوجيا، بين الانكسار والأمل.
|
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |