التعايش والاحترام

أكرم شلغين
2025 / 9 / 21

في كتابه الأشهر دليل حرب العصابات (1961)، شدّد الجنرال الكوبي ألبرتو بايو — الذي درّب كاسترو وغيفارا — على أن نجاح المقاتل لا يتوقف على السلاح وحده، بل على العلاقة مع السكان المحليين. ففي الفصل المعنون "العلاقات مع السكان" يكتب:
"يجب على المُقاتل أن يحترم عادات وتقاليد ودين السكان المحليين، حتى لو كانت غريبة عنه. الثقة تُبنى بالاحترام، لا بالقوة." هذا المبدأ لم يظل حبرا على ورق؛ بل يتردد صداه في شهادات لاحقة. ففي سيرة غيفارا التي كتبها جون لي أندرسون، نقرأ أن بايو كان يكرر أمام طلابه: "لا تحاولوا تغيير عقائد الناس، بل اكسبوا ثقتهم باحترام ما يقدسون" (1). أما في كتاب فيدل كاسترو حياتي، فيروي كاسترو نفسه أن بايو كان يوصيهم قائلا: "لا تضحكوا على صلاة أحدهم، فربما كانت صلاته هي التي ستفتح لكم باب بيته" (2). أي كانت تعليماته، وربما غير متوقعة لدى عدد كبير من الناس، تركز على احترام معتقدات الجميع، وخاصة الدينية. وكأن بايو يذكّر بأن الثورة الحقيقية لا تُبنى على السلاح وحده، بل على القدرة على احترام البنية الرمزية للناس الذين يعيشون بينهم.
وفي الصفحة الأولى من كتابه تفسير الثقافة، يذكّرنا الأنثروبولوجي الأمريكي كليفورد غيرتز بأن التعامل مع ثقافات الآخرين لا ينبغي أن يكون من باب الاستخفاف أو المساءلة المتعالية، بل من باب الاحترام والتفهم، حتى حين تبدو ممارساتهم "غريبة" أو غير منسجمة مع منطقنا الخاص (3).
هاتان الرؤيتان — رؤية العسكري الثوري ورؤية العالِم الأكاديمي — تلتقيان عند نقطة واحدة: لا بقاء ولا معنى لأي مشروع إنساني إن لم يقم على احترام تنوّع البشر واختلافهم.
وهنا يمكن أن نستدعي مثالا من عمق تاريخنا السوري: تدمر. هذه المدينة الصحراوية، التي تحوّلت في القرنين الأول والثالث الميلاديين إلى عقدة تجارية عالمية، لم تكن لتزدهر لولا قدرتها على دمج ديانات وثقافات مختلفة في فضاء واحد. في معابدها كان يُعبد بعل شمين إلى جانب أغليبول ومالِكبل، وتظهر آلهة مثل اللّات وهي تُقارب بالإلهة الإغريقية أثينا. هذا "الدمج الديني" لم يكن مجرد ترف فكري، بل كان وسيلة عملية لضمان العيش المشترك بين التجار والقبائل القادمة من فارس، واليونان، وروما، والجزيرة العربية (4)(5). لقد فهم أهل تدمر باكراً أن احترام معتقدات الآخرين ليس ضعفاً، بل قوة استراتيجية.
وإذا وسّعنا المشهد إلى تاريخ سوريا ككل، نجد أن مدناً مثل أنطاكية وحلب ودمشق كانت مراكز ازدهار لأنها كانت مفتوحة أمام الأرمن واليونان والعرب والترك واليهود والمسيحيين والمسلمين. كلما ضاق الأفق وتقدّم التعصب، خبا الوهج. وكلما ساد الاحترام المتبادل، ازدهرت التجارة والفكر والفن (6).
لم يختفِ هذا الفهم العميق. فالصوفية تمثل عبر التاريخ الإسلامي مساحة روحية وفكرية رحبة تقبل الآخر وتؤكد على الوحدة الجوهرية للأديان، كما يظهر في فكر جلال الدين الرومي (7). وكذلك المفكرون المعاصرون حيث أنتجت المنطقة مفكرين كبار دافعوا عن هذا الفهم، مثل محمد أركون في مشروعه نقد العقل الإسلامي (8)، الذي دعا إلى قراءة التراث بمنظور أنثروبولوجي يفكك المسلّمات ويفهمها في سياقها التاريخي، أو أدونيس في نقده الثوري للشعر والتراث.
والعالم والتاريخ بدورهما يقدمان أمثلة مماثلة: في الأندلس، ازدهرت العلوم والفلسفة في لحظة "التعايش" بين المسلمين والمسيحيين واليهود (9). ولكن حين طغى التعصّب، كما في محاكم التفتيش الإسبانية، انهار ذلك الثراء وتحوّل إلى قمع وهجرة وخسارة للطاقات (10).
إن ما قصده بايو وغيرتز، وما تعلّمناه من تدمر والأندلس وتجارب التاريخ، هو أن الاحترام ليس مجاملة، بل شرط وجود. من لا يحترم الآخر لا يمكنه أن يفهمه، ومن لا يفهم الآخر لا يمكنه أن يتعايش معه، ومن لا يتعايش، محكوم بالانقراض أو العزلة.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي