الخير والشر: معادلة الإنسان والكون بين الفطرة والضرورة

أكرم شلغين
2025 / 9 / 18

في دردشة قصيرة مع صديق، تحركت داخلي رغبة قديمة للكتابة عن الخير والشر. أعلم أنني لن أستطيع إيفاء هذا الموضوع الإشكالي حقه، فهو قد شغل فلاسفة ولاهوتيين وأدباء عبر العصور. لكنني أسارع لأبدأ من حيث انتهى تفكيري: هل الخير والشر حقيقتان قائمتان بذاتهما، أم أنهما مفهومان نسبيان نصنعهما لنبرر أفعالنا ونؤطر تجاربنا؟
أصوات من التاريخ: جذور السؤال
لطالما انقسمت الشخصية الإنسانية في محكمة التحقيق مع هذا السؤال الجوهري: ما الذي يحكم أفعالنا، نور خير داخلي أم ظلام شر كامن؟ لنستمع إلى بعض الأصوات:
• يعتقد البعض أن داخل كل إنسان جانبا من الخير وآخر من الشر. توماس هوبز رأى أن الإنسان بطبيعته أناني تسوده غريزة البقاء، ولولا القوانين لكان "ذئبا لأخيه الإنسان" [1].
• في المقابل، ذهب جان جاك روسو إلى أن "الإنسان يولد خيّرا، والمجتمع هو الذي يفسده" [2].
• بينما يحلّق فريدريك نيتشه فوق هذه الثنائية، مُعلناً أنها مجرد بناءات ثقافية، فيقول: "ليس هناك خير ولا شر مطلقان، بل تفسيرات وتأويلات" [3].
• ويأتي فيودور دوستويفسكي ليلخّص المأساة الداخلية في روايته الإخوة كارامازوف، قائلا على لسان أحد شخوصه: "الشر يسكن في أعماق كل إنسان كما يسكن الخير، وكلاهما ينتظر اللحظة المناسبة ليظهر" [4].
هذه الأصوات المختلفة تكشف حجم التعقيد وتؤكد أن الأمر لا يُختزل في معادلات بسيطة.
المعركة الداخلية: فطرة أم اكتساب؟
ينقسم الجدل حول منبع الأخلاق إلى مدرستين:
• أنصار الفطرة المزدوجة: يرون أن الصراع بين الخير والشر هو معركة أزلية داخل كل فرد، مثل جانبيّ عملة واحدة (ين ويانغ). الخيارات اليومية هي انتصارات مؤقتة لأحد الجانبين.
• أنصار الاكتساب والتأثير: هنا يتحول السؤال من "ما الذي نحن عليه؟" إلى "ماذا صرنا عليه؟". يمثل هذا التيار جون لوك بفكرة "العقل صفحة بيضاء"، حيث تأتي البيئة (التربية، المجتمع، التجارب) لتنقش على هذه الصفحة قيم الخير أو الشر [5].
ربما تكمن الحقيقة في مزيج من الاثنين: فطرة قابلة للتشكيل. ميل فطري نحو غرائز البقاء (الأنانية) والتعاطف، يتم صقله وتوجيهه بشكل حاسم عبر تجربة الحياة.
مستنقع النسبية: حروب السرديات
"كل سردية لها راويان". هذه هي جوهر المأساة الإنسانية في أقسى تجلياتها: الحروب. هنا، ينهار مفهوم الخير والشر المطلق.
في ساحة المعركة، كل طرف يدّعي تمثيل "الحق"، وكل سردية تُروى بلسان أصحابها تبدو مقنعة. الجندي الذي يدافع عن أرضه هو "بطل" في سردية شعب، و"غازٍ شرير" في سردية الآخر. "الإرهابي" في خطاب رسمي هو "مقاوم من أجل الحرية" في خطاب معارض. [6].
هنا، يتحول الخير والشر من صفة ملازمة للفعل إلى صفة تُمنح حسب وجهة النظر والمصلحة والسياق. الخير يصبح "قصة مسوقة" في يد القوة والسلطة والرواية المسيطرة. هذا لا يعني أن كل الأفعال متساوية أخلاقيا (فالإبادة الجماعية تبقى فظيعة من أي طرف)، لكنه يعني أن تعريف "الخير" نفسه أصبح سلاحا.
الدين: سلاح ذو حدين في تبرير العنف
للأسف، غالبا ما يتم توظيف الدين ليكسب هذه السرديات قدسية مزيفة. نجد رجال دين من جميع الأديان يبررون العنف ضد "الآخر":
• في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: أصدر بعض الحاخامات الإسرائيليين فتاوى تدعم قتل المدنيين الفلسطينيين، معتبرين أن أرواح غير اليهود "ليست مقدسة بنفس القدر" في وقت الحرب [7]. وأما الكنيسة الأرثوذكسية الروسية فقد رافقت الجيش الروسي في حربه وأضفت بعدا قدسيا على المعركة [8].
• في الحروب الطائفية: كما في مثال سوريا، حيث تم استخدام الخطاب الديني لتحريض طائفة على أخرى تحت شعارات تكفيرية. كما حصل في خطابات شيوخ الجوامع قبل مذابح الساحل (آذار الماضي) وبعده مذابح السويداء حيث التحريض ضد "الآخر" الكافر.
• الجماعات المتطرفة: جماعات مثل داعش والقاعدة تتقن استغلال النصوص الدينية لتبرير أعمالها الإرهابية ضد المدنيين [9].
كما يلخص العالم الفيزيائي ستيفن واينبرغ هذه المعضلة بقوة: "بوجود الدين أو بدونه، ستجد أشخاصا صالحين يفعلون الخير، وأشخاصا شريرين يفعلون الشر. لكن لكي يقوم أشخاص صالحون بأعمال شريرة، فهذا يتطلّب الدين" [10]. الدين هنا يوفر غطاء أخلاقياً مزيفاً يخدر الضمير الفردي.
معضلة الطبيعة: النمر والغزال ونحن آكلي اللحوم
حتى في الطبيعة، نصطدم بمعضلة الخير والشر. نمر يفترس غزالا يفترس غزالا ونحن ننقذه...
• من منظور النمر: هذا ليس شرا، بل ضرورة للبقاء. إنقاذنا للغزال هو شر بالنسبة له ولصغاره.
• من منظور الغزال: إنقاذنا هو عمل رحيم وخير محض.
هنا ينهار مفهومنا الثنائي. الطبيعة لا تعرف أخلاقا، بل تعرف توازنا قاسيا. ونحن، كبشر، نريد تطبيق أخلاقنا على عالم لم يُصمّم ليكون عادلا. نأكل اللحوم دون أن نرتكب عملية القتل بأنفسنا، مما يخلق "تباعداً نفسياً" بيننا وبين فعل "الشر" الضروري لإطعامنا.
المفر من هذه المعادلة ليس في إيجاد جواب قاطع، بل في القبول بـ "المأزق الأخلاقي". الوعي بهذا التناقض هو ما يجعلنا بشراً. الأخلاق هنا ليست عن تجنب الشر تماماً (وهذا مستحيل)، بل عن تقليله، وتقديم الاحترام للحياة التي نأخذها. الخير هو في التعاطف مع معاناة الآخر، حتى وإن كان هذا "الآخر" هو عشاءنا.
اللاأخلاقية الكونية: هل الكون لا يهتم؟
هنا تكمن الصدمة: الكون لا يُكافئ الخير ولا يعاقب الشر. الغيوم لا تمطر على الأبرار فقط. الأرض لا تهتز تحت أقدام الظالمين فقط. هذا لا يعني أن الخير لا قيمة له، بل يعني أن قيمته تأتي منّا نحن. من قرارنا أن نكون لطفاء رغم القسوة، عادلين رغم الظلم.
في النهاية، ربما يكون الخير والشر ليسا قوتين متصارعتين، بل هما اتجاهان للوجود.
الشر هو اتجاه القسوة، الأنانية المفرطة، والتدمير.
أما الخير، في هذا العالم المعقد، فهو ليس ضمانة للانتصار، بل هو فعل مقاومة يومي. هو الخيار المتعمد في أن تكون رحيماً حيث يمكنك القسوة، صادقاً حيث يمكنك الخداع.
كما قال أرسطو: "الخير غاية كل شيء، لكنه لا يُدرك إلا عبر التوازن بين العقل والرغبة" [11]. النهايات السعيدة الحقيقية ليست تلك التي ينتصر فيها الخير على الشر إلى الأبد، بل تلك التي، رغم كل الظلام وعدم المنطقية، نتمسك فيها باختيارنا أن نكون مصدراً للضوء بدلاً من العتمة.
الخير لا ينتصر تلقائيا. الخير يُذبح كل يوم، ثم ينهض من جديد — ليس لأنه غالب، بل لأنه ضروري. مثل الهواء. لا نراه، لكننا نموت بدونه. انتصاره الحقيقي ليس في نهاية التاريخ، بل في كل لحظة نختارها لصالح الحياة على الموت، والتعاطف على القسوة.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي