|
|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |

أكرم شلغين
2025 / 9 / 8
قبل نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين جاء ضيفان إلى برلين (حيث كنت مقيما)، أحدهما ليحكي عن المسجد الأقصى وهو خطيبه وقد تكلم بلغة واضحة وبخطاب جذاب مؤثر لا يمتلك واحدنا إلا الاصغاء له والاعجاب بمحتواه. وأما الآخر فهو ممثل أحد الأطراف اليسارية العربية (وهو أكاديمي ويعلم في الجامعات الأوربية وهذا ما وجدته غريبا لأن خطابه لا ينسجم لامع يمين ولا مع يسار المؤسسات الأكاديمية الأوربية...ولكن...هكذا الدنيا...!!!) عندما راح يتكلم بدا واضحا أنه يتخبط في كليشيهات حفظها أو التقطها من هذا المكان أو ذاك وتوقف بعدا عن الالتقاط ومتابعة مما يجري...كان يتكلم عن الثروة في إفريقيا وراح يعيد نفس العبارة واصفا إفريقيا بـ "القارة السوداء" وعندما حاولت الكلام بلطف حول هذه المسألة اللغوية وجدته غارقا في نرجسيته التي ربما سقتها تعظيم القوم له وأما حول المسألة السياسية عن امتصاص خيرات دول الشعوب شعرت أنه جاهز للعراك وهو فوق النقد.... بقي التعبير في رأسي وكتبت عنه مرة. واليوم لسبب أو لآخر أود الخوض مرة أخرى في الجانب اللغوي المذكور للتو.
اللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي مرآة للوعي الجمعي، تكشف عن مواقفنا من أنفسنا ومن الآخر. الكلمات التي نختارها تحفر صورة في الذاكرة الجماعية، وتُعيد إنتاج التصورات والمواقف التي نحملها تجاه الفئات المختلفة في المجتمع. من هنا نشأ في الثقافة الغربية مفهوم النقاء السياسي أو التصحيح السياسي (Political correctness)، بوصفه جهدا متواصلا لتنقية اللغة من التعابير التي تحمل تمييزا أو تنطوي على ازدراء أو تنميط.
لقد كان من الشائع استخدام مفردات مثل Negro أو Nigger في الإشارة إلى الأمريكيين من أصول إفريقية، وهي مقابلة لكلمة زنجي في العربية. هذه الكلمات كانت تُستخدم دون وعي لِما تحمله من تاريخ طويل من العبودية والقهر. ومع الوقت، أصبحت هذه المفردات غير مقبولة اجتماعيا وأخلاقيا، واستُبدلت بتعابير أسود أو أسود أمريكي مثل Black أو African American. والأمر لا يتوقف عند ذلك؛ فحتى التعبير الشائع قديمًا عن إفريقيا بوصفها "القارة السوداء" صار يُنظر إليه كإهانة، إذ إن إفريقيا ليست قارة مظلمة أو متوارية، بل من أكثر القارات إشراقا وتنوّعا، إفريقيا هي أم لحضارات وليس من العدل اختزالها بلون بشرة أبنائها. والأغرب أن مثل هذه التسمية لم تُستخدم مع القارات الأخرى؛ فلا أحد يتحدث عن "القارة البيضاء" أو "القارة الصفراء"، وهو ما يكشف عن اختلال في النظرة الثقافية.
وليس الأمر مقتصرا على المفردات العامة، بل تعدّاه إلى تفاصيل الحياة اليومية. ففي بعض الدول الأوروبية تغيّرت أسماء بعض المنتجات الغذائية التي كانت تحمل إيحاءات عنصرية. على سبيل المثال، إحدى أنواع الحلويات المعروفة في أوروبا كانت تُسمى Negro Kiss (قبلة الزنجي)، ثم استُبدلت بـ Choco Kiss (قبلة الشوكولا)، لأن الاسم الأول صار يُعدّ جرحا للكرامة الإنسانية وتذكيرا بماض استعماري وعنصري. كذلك ظهرت مساعٍ في بعض دور النشر والمعاجم لإزالة أو تقييد استخدام الكلمات ذات الحمولة العنصرية، حتى لا تستمر في إعادة إنتاج التمييز عبر اللغة.
حتى شركات مثل مايكروسوفت وغيتهاب أزالت كلمات مث “Master/Slave” من لغات البرمجة… واستبدلتها بـ “Primary/Secondary” لأنهم يعلمون ان اللغة تُربّي الأجيال… وتُشكّل وعينا.
هذه الأمثلة تكشف أن التغيير اللغوي ليس مجرد تبديل كلمات، بل إعادة صياغة لرؤية العالم. فحين نقول "القارة السوداء"، أو نصف الآخر بـ "زنجي"، نحن لا نصفه فحسب، بل نعيد إنتاج صورة ثقافية تضعه في خانة التبعية أو الاختلاف المُهمَّش بدءا من عصر اصطياد الإنسان في زنجيبار (تنزانيا) وبيعه عبدا ومروا بكل المآسي الأخرى عبر التاريخ. وحين نتخلى عن هذه المفردات، نحن لا نمارس مجرد رقابة، بل نمنح اللغة قدرة على التعبير عن المساواة والاعتراف بالآخر.
قد يرى البعض أن النقاء السياسي نوع من المبالغة أو الميوعة الثقافية، لكن جوهره يتجاوز السطح. إنه محاولة لإعادة النظر في الكلمات التي شكّلت عبر قرون أدوات للقهر والإقصاء. فالكلمة ليست بريئة، بل هي جزء من بنية اجتماعية تنتج قيما وصورا ومواقف. وإن كان تغيير كلمة لا يغير الواقع جذريا، إلا أنه بداية وعي جديد، حيث ندرك أن اللغة التي نستخدمها اليوم قد تكون جسرا للكرامة أو أداة لإعادة إنتاج الجرح. عندما تتغيّر الكلمات… فهذا لأن الإنسانية تكبر. لأنهم فهموا: العنصرية لا تبدأ بالعنف… بل بالكلمة. كلمة واحدة… قد تبني أو تهدم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. المراجع
1. Jim Crow Museum of Racist Memorabilia. (2010). Why is the word "Negro" offensive? Ferris State University.
https://jimcrowmuseum.ferris.edu/question/2010/october.htm
2. Wikipedia contributors. (2025). Negro. In Wikipedia.
https://en.wikipedia.org/wiki/Negro
3. University of Arkansas News. (2003). Sociologists Study Evolution of Name Identity Among Black Americans.
https://news.uark.edu/articles/11444/sociologists-study-evolution-of-name-identity-among-black-americans
4. Time Magazine. (2014). U.S. Army Plans to Change Policy Approving Use of Word Negro.
https://time.com/3561227/u-s-army-plans-to-change-policy-approving-use-of-word-negro
5. Teen Vogue. (2016). ‘Negro’ and ‘Oriental’ Are Officially Out of Federal Law.
https://www.teenvogue.com/story/negro-oriental-law
6. Wikipedia contributors. (2025). Chocolate-coated marshmallow treats. In Wikipedia.
https://en.wikipedia.org/wiki/Chocolate-coated_marshmallow_treats
7. Yle (Finnish Broadcasting Company). (2020). Brunberg to “Kiss” branding due to racism concerns.
https://yle.fi/a/3-11236901
8. Fair Observer. (2020). Product and Street Renaming: Erasing Racist Legacies.
https://www.fairobserver.com/region/europe/product-street-renaming-racism-legacies-netherlands-news-18810
Daily Sabah. (2020). At last, it is Nero: Turkish firm renames cookie over racism concerns.
https://www.dailysabah.com/business/economy/at-last-it-is-nero-turkish-firm-renames-cookie-over-racism-concerns
|
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |