|
|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |

أكرم شلغين
2025 / 9 / 7
تمثل ظاهرة ابتعاد الشباب السوري، خاصة جيل ما بعد 2011، عن الانخراط في الشأن الوطني العام، أو اغترابهم عن الشأن العام، واحدة من أكثر الإشكاليات تعقيدا وإيلاما في الواقع السوري الراهن. إنها معضلة تتطلب مقاربة تتجاوز التفسيرات السطحية أو الأحكام الأخلاقية، لتغوص في أعماق السياق التراكمي الذي صاغ وعي جيل كامل. هذا النص هو محاولة متواضعة لتفكيك عناصر هذه الإشكالية، وهو لا يزعم تقديم إجابات شافية، بقدر ما يسعى إلى طرح الأسئلة المتعلقة بالأمر وإضاءة زوايا من حالة مركبة، تستعصي على أي توصيف مُطلق.
لا يمكن فهم اغتراب الشباب دون وضعهم في الإطار التاريخي الذي تشكلوا فيه. لقد ولد هذا الجيل وعاش طفولته في ظل نظام استبدادي أحادي، ثم وجد نفسه فجأة في قلب ثورة عارمة حلقت بآمالها إلى عنان السماء، قبل أن تسحقها آلة عنف لا هوادة لها. هذا المسار من "الصدمة المزدوجة" – صدمة الاستبداد الطويل، تليها صدمة العنف المفرط – خلقت لدى الكثيرين ما يمكن تسميته "صدمة الوراثة". لقد ورثوا وطنا مثقلا بجراح لم يسببوها هم، وتاريخا من النضال لم يشاركوا في صنع مجده الأول، ليُطلب منهم اليوم تحمل تبعاته. هذا الشعور الثقيل بالدين التاريخي والمسؤولية عن إرث لم يختاروه، يدفع بشكل طبيعي نحو الرغبة في التحرر من هذه الأعباء، والبحث عن حياة فردية بعيدا عن صخب الجماعة المنهكة في بلد فقد كل شيء.
صحيح أن هناك قوى ديمقراطية معارضة قضى أفرادها سنوات في السجون ولها تاريخها النضالي المشهود، وهو تاريخ يستحق كل التقدير. إلا أن شرعية الماضي لا تكفي وحدها لضمان شرعية الحاضر أو المستقبل. يبدو أن هناك "فجوة تمثيلية" عميقة بين هذه النخب وجيل الشباب. لقد فشلت هذه القوى، لأسباب موضوعية ذاتية، في تطوير خطاب وسياسات قادرة على "استمالة" الشباب، أي على مخاطبة همومهم الوجودية المباشرة: البحث عن لقمة العيش، الهجرة، الأمان الشخصي، والتطلع إلى هوية فردية خارج إطار الصراع الكلي.
الأمر هنا ليس إخفاقا أخلاقيا، بل هو "قطيعة جيلية" في الأولويات واللغات. بينما تركز النخب القديمة على خطاب الحقوق والسيادة والحرية بمفهومها المجرد والكلي، ينشغل الجيل الجديد بـ"حرية" الحركة، "حق" العيش بكرامة، و"سيادة" الفرد على مصيره الشخصي. هذا الاختلاف في سلم الأولويات يولّد انفصالا يشعر معه الشباب أن هذه النخب لا تتحدث باسمهم ولا تفهم مشاكلهم الحقيقية.
تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه القراءة هي محاولة لتشريح مسؤولية الجيل الأكبر (النخب السياسية والتقليدية) في فشل استقطاب جيل الشباب واستمالتهم، من خلال عجزه عن تجديد خطابه وآليات عمله. وهي تقر بأن هذا العامل، رغم أهميته، ليس الوحيد في المعادلة. فهناك أسباب أخرى عميقة وجوهرية تتعلق بـبنية العقل السوري ذاته، والذي تشكّل وتقولب في ظل منظومة استبدادية طويلة الأمد، خلقت ما يمكن تسميته، باستعارة مفهوم ميشيل فوكو، "جسدا خاضعا" (Docile Body) وثقافة من الخوف متجذرة، حيث يظل خطر المعتقل والاختفاء قابعا في اللاوعي الجمعي حتى بعد زوال آليته المباشرة في بعض المناطق. إلا أن تحليل هذا العامل الأنثروبولوجي-السلطوي العميق، يحتاج إلى مساحة أخرى مستقلة، وهو ما لا يتسع له نطاق هذا المقال الذي يركز على الجانب الجيلي والسياسي داخليا.
عندما يُسأل: "أهي ـ أي فئة الشباب ـ تريد أن تعيش فقط؟"، فإن السؤال نفسه يحمل في طياته إجابة. نعم، يريد هذا الجيل أن "يعيش" بالمعنى الوجودي الكامل للكلمة. بعد أن أصبح "العيش" نفسه في الوطن مجرد "بقاء" على قيد الحياة تحت وطأة انهيار اقتصادي واجتماعي، لم تعد الهروب إلى الخارج ترفا أو خيانة، بل تحول إلى "خيار وجودي" مشروع. إنه بحث عن إمكانية لبناء حياة، وليس مجرد الهرب من الموت. في هذا السياق، يصبح الابتعاد عن "السياسة" ليس موقفا أيديولوجيا معاديا لها، بل هو رد فعل وقائي للنجاة، وتحول في الطاقة من الهم العام المستحيل إلى الهم الخاص الملح.
إن استمالة هذا الجيل لا تمر عبر تذكيره بتاريخ نضالي مجيد أو عبر خطابات وطنية لم تعد تلقى صدى في وجدانه. الطريق الوحيد يبدأ بالاعتراف بشرعية أسئلته وهمومه المختلفة. يتطلب الأمر:
تغيير اللغة: من الخطاب السياسي الأيديولوجي التقليدي إلى خطاب الخدمات والحلول العملية (كيف نؤمن الكهرباء؟ كيف نخلق فرص عمل؟ كيف نسهل التعليم؟). بالرغم من صعوبة تطبيق أيا منها ضمن الواقع السوري حاليا
تغيير الممارسة: بناء مؤسسات مجتمع مدني حقيقية، لا سياسية، تركز على تمكين الشباب اقتصاديا واجتماعيا وتمنحهم شعوراً ملموساً بالتأثير والفاعلية.
الاعتراف بالهزيمة: الاعتراف الجماعي بأن المشروع السياسي بصورته التقليدية قد فشل في جذب الجيل الجديد، وأن المطلوب هو إعادة تخيل فكرة "الوطن" و"المواطنة" نفسها بشكل يتسع لأحلامهم المختلفة.
خلاصة القول، إن ابتعاد الشباب ليس مؤامرة أو دليلا على اللامبالاة، بل هو عرض مرضي لاختلال بنيوي عميق في العلاقة بين الفرد والمجتمع، بين الحلم والواقع، بين الأجيال. فهم هذا الاغتراب هو الخطوة الأولى، وربما الأصعب، نحو أي محاولة جادة لاستعادة الثقة وبناء مستقبل لا يستبعد أحدا.
|
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |