السلطة الحقيقية: الثقة بدلا من الخوف و المساواة بدلا من التفرقة

أكرم شلغين
2025 / 8 / 23

في عصرٍ تتزايد فيه التدخلات الخارجية وهشاشة الأنظمة، وتُستخدم أدوات القوة الناعمة والخشنة على حد سواء، تبرز مسألة أساسية تتعلق بجوهر الشرعية السياسية ويبرز السؤال الأكثر من ملّح: من أين تنبثق قوة الحاكم؟
الإجابة بتبسيط كبير، مع إدراكي بعمقها، تكمن في أن أساس علاقة الحاكم بشعبه هو ما يحدد قوته الحقيقية ومقامه في المجتمع. فالسلطة التي لا تستمد شرعيتها من ارتباطها الوثيق بالمواطن، بل تعتمد على دعائم خارجية، من دعم أجنبي إلى تحالفات إقليمية، هي سلطة هشة، مهما بدت قوية في الظاهر لأنها تفتقر إلى الجذور الحقيقية التي تربط القيادة بالمجتمع. فهي لا تقوم على عقد اجتماعي حقيقي، بل على توازنات مؤقتة، وولاءات مشروطة؛ فأساس علاقة الحاكم بشعبه هو ما يحدد قوته ومكانته في المجتمع؛ والحاكم الذي يستمد شرعيته من إرادة شعبه، ومن ثقته العميقة في هذا الشعب، يملك قاعدة صلبة تضمن استقرار حكمه واستمراريته.
وإن كانت علاقة الحاكم بشعبه محوراً أساسياً لاستقرار المجتمعات وتقدمها، لكن الأسس التي تُبنى عليها هذه العلاقة شهدت تحولاً جذرياً عبر العصور. فمقولة نيكولاي ماكيافيللي الشهيرة (في الأمير وفي أكثر من مكان): من الأفضل للقائد أن يخافه الشعب على أن يحبه، وبرغم وجاهتها في زمنها حيث كانت تمثل دليلاً للسلطة في عصر الصراعات والملوك المطلقين، إلا أنا باتت بالية اليوم و لا سوق لها في عالم يتطلب بناء الثقة لا بثّ الرعب. و لم تعد صالحة لعصرنا الحالي، بل أصبح نقيضها هو الأساس: السلطة الحقيقية لا تُبنى على الخوف، بل على الثقة؛ ولا على القمع، بل على العدالة ، نعم القوة الحقيقية للحاكم لا تُقاس بمدى خوف الناس منه، بل بمدى التفافهم حوله وإيمانهم بعدالة مشروعه وقدرته على تمثيل مصالحهم جميعاً دون استثناء حيث اليوم وفي زمن التواصل الفوري، وانتصار مبادئ الكرامة الفردية، وتصاعد الوعي بحقوق الإنسان، لم يعد الخوف أداةً فعّالة للاستقرار. بل على العكس، فإن الخوف يولّد كراهية، ويُغذّي السخط، ويُمهّد للانفجار. أما الحب، أو، بلغة أكثر دقة، الثقة والاحترام المتبادل، فهو ما يُعزّز استقرار الدولة، ويُوطّد نسيجها الاجتماعي، ويُحفّز المواطن على الانتساب الحقيقي للوطن. إن القوة الحقيقية للحاكم لا تأتي من السلاح ولا من الدعم الخارجي بل من ثقة الشعب به وثقتِه هو بالشعب. فالحاكم الذي يثق بمواطنيه، يعاملهم كشركاء في البناء لا كأعداء محتملين هو حاكم يُدرك أن أمةً لا تُبنى بالخوف، بل بالانتماء، وبالعدل، وبالكرامة.
من جانب آخر، عندما يعتمد الحاكم على قوى خارجية لتثبيت سلطته، يصبح أداة في يد مصالح الآخرين، ويفقد شرعيته الداخلية. أما عندما يستمد سلطته من إرادة شعبه يصبح ممثلاً حقيقياً لتطلعاتهم وقادراً على قيادة البلاد نحو الاستقلال والازدهار. الثقة المتبادلة بين الحاكم والمحكوم هي الدرع الحقيقي الذي يحمي الأمة من الأخطار الخارجية والداخلية.
وهنا تبرز ضرورة أن يكون الحاكم وسلطته على مسافة واحدة من جميع المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية، أو العرقية، أو السياسية، أو الاجتماعية. فالمسافة الواحدة ليست مبدأً إداريا فحسب، بل هي أساس العدالة وشرط الشرعية. حين يشعر المواطن أن القانون يُطبّق عليه كما يُطبّق على غيره، وأن الدولة تحميه كما تحمي الآخرين، حينها فقط يولد الانتماء الحقيقي، ويُبنى العقد الاجتماعي؛ و العلاقة السليمة بين الفرد وحكومة تحكم في بلده فتتجسد في المساواة التي أساسها العقد الاجتماعي الحديث إذ يجب أن تكون السلطة على مسافة واحدة من جميع المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية أو الدينية أو السياسية أو غيرها... التمييز والتفرقة يقتلان روح الانتماء ويغذيان السخط الاجتماعي. العقد الاجتماعي الحقيقي يُبنى على مواطنة متساوية حيث يشعر كل فرد بأنه محميٌ بالقانون، وبأن له حقوقاً وعليه واجبات وبأن الدولة هي ضامنة لحياته وكرامته. عندما يضمن الحاكم العدالة للجميع يتحول الولاء من الولاء للطائفة أو العائلة إلى الولاء للوطن.
والسلطة الوطنية الحقيقية هي التي تتحول من "سيادة الخوف" إلى "سيادة القانون والثقة" حيث يجب أن تُعيد الحكام تعريف علاقة المؤسسة الحاكمة بالشعب والتي يجب أن تستند إلى الشفافية في الإدارة والحكم، وترى المواطنين ، فعلا لا قولا فقط، بأنهم متساوون جميعا أمام القانون، وبأن تعتمد على الحوار بدلا من القمع والعامل الأهم هو وجود الثقة كأساس للعلاقة بين الحاكم والمحكوم.
وهنا أود الإشارة إلى آفة هي من أخطر الأمراض التي تُضعف المجتمعات إنها ظاهرة "الجواسيس" أو المخبرين الذين يبيعون ضمائرهم لخدمة سلطة قمعية. هؤلاء هم "شبيحة بقناع" يغيرون ولاءهم مع تغير الأنظمة. هم أشباه بشر بلا هوية وطنية أو أخلاقية ومستعدون لخيانة جيرانهم وأقربائهم في مقابل مكاسب مادية أو سلطوية. وجودهم يُفسد نسيج المجتمع ويقتل الثقة بين أفراده، ويحول الوطن إلى ساحة شك وريبة. استخدام أشخاص للقيام بدور "المخبر الجاسوس" أو "الشبيح" داخل المجتمع، لا يُعد مجرد أداة أمنية بل هو جريمة سياسية وأخلاقية. لأنها تُفكك النسيج الاجتماعي، وتُزرع الشك في القلب، وتُحوّل الجار إلى عدو، والصديق إلى خائن السلطة التي تعتمد على مثل هذه الأدوات هي سلطة رخيصة وضعيفة، لأنها تعلن عن عجزها في كسب ثقة الشعب بطريقة طبيعية. ولا بد من التذكير أن المخبر الذي يبيع ضميره اليوم لصالح سلطة معينة هو ذاته الذي قد يبيعه غداً لصالح سلطة أخرى، فهو لا يملك ولاءً حقيقيًا، ولا هوية وطنية. فهو لا يُدافع عن دولة، بل عن سلطة ويوقم بذلك لمصلحة ضيقة أو لمرض نفسي، وقد يُصبح في الغد جاهزًا للتجسس على نفس السلطة، إذا ما عُرض عليه الثمن الأعلى. مخبر الأمس هو مخبر اليوم وغدًا، لأنه لا ينتمي إلى فكرة، ولا إلى وطن، بل إلى مصلحة آنية؛ إنه، بعبارة مختصرة، بلا انتماء حقيقي ولا هوية وطنية راسخة.
إذا أردنا دولةً حقيقية، قائمة على العدالة والاستقرار، فعلينا أن نُعيد الاعتبار إلى العلاقة الصادقة بين الفرد والسلطة. علاقة تقوم على الثقة، والشفافية، والاحترام. علاقة يشعر فيها المواطن بأنه جزء من الوطن، لا مجرد رقمه في سجلات الدولة. يشعر بأنه محمي بالقانون، لا مهددًا به. يشعر بأنه شريك في القرار، لا متفرج على مصيره. الحاكم الناجح ليس من يُخيف شعبه، ولا من يعتمد على القوى الخارجية، بل من يبني جسور الثقة مع شعبه، ويحترم كرامته، ويُكرّس المساواة أمام القانون. ففي هذه العلاقة الصالحة، تُبنى الدول، وتُصنع الأمان، وتُستعاد الكرامة.
تعلمنا تجارب الشعوب وقراءة واقعها اليوم أنه لا بديل عن العدل والثقة في أي مججتمع للنهوض والتقدم. بعد عقود من نظام الفصل العنصري، أدرك نيلسون مانديلا أنّ القوة ليست في الانتقام من الخصوم أو في إخضاع الشعب بالخوف، بل في بناء مصالحة وطنية شاملة. فاختار أن يقود البلاد نحو التسامح والعدالة الانتقالية، مما جعل اسمه رمزاً للقوة الأخلاقية والسياسية على حد سواء. زكذلك من يراقب ويدرس دول شمال أوربا مثل السويد والنرويج فإنه يلحظ كيف تقوم العلاقة بين الحاكم والشعب على عقد اجتماعي صلب أساسه العدالة الاجتماعية والشفافية والمساواة أمام القانون. هذه الدول تثبت أنّ السلطة التي تستمد قوتها من ثقة الشعب بها تحقق استقراراً طويل الأمد ورخاءً اقتصادياً واجتماعياً.
في العالم الحديث، وبحق، لم يعد الخوف أداة فعالة للسيطرة. الشعوب اليوم أكثر وعياً وتطلعاً للحريات والحقوق. السلطة التي تعتمد على الخوف ستجد نفسها يوماً ما أمام ثورة غضب عارمة، كما شهدنا في العديد من الثورات عبر التاريخ. أما السلطة القائمة على الثقة، فهي سلطة مستدامة، لأنها تُشعر المواطن بالأمان والانتماء. عندما يحب الشعب حاكمه، يصبح مستعداً للدفاع عنه وعن الوطن حتى بدمه.
ولنذكّر، بأن الوطن ليس مزرعة لحاكم أو عائلة، بل هو ملك للشعب بأكمله. والقوة الحقيقية هي التي تأتي من القلب، لا من السجن أو المخبرين. ولا يمكن لأي بلد أن يكون قوياً حقاً والمجتمع أن يكون مستقراً حقاً إلا عندما ترتكز القوة على ثقة الشعب واحترامه. تلك القوة، من جديد، لا تأتي من الخارج، بل من عمق قلوب المواطنين. وما لم تُبنَ العلاقة بين السلطة والشعب على الثقة والعدالة والانتماء المشترك، فإنّ أي حكم سيبقى هشّاً مهما بدا قوياً في الظاهر. وفي النهاية، التاريخ لا يُكتب بأسماء الحكام الذين أخافوا شعوبهم، بل بأسماء أولئك الذين بنوا معهم دولاً قائمة على الثقة والكرامة.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي