حين تُحرق الكتب وتنجو الأفكار: من ابن رشد إلى فهرنهايت 451

أكرم شلغين
2025 / 7 / 30

تحت عنوان "للأفكار أجنحة لا تُعْتَقَل" كتب صديق مقالا استحضر فيه إرث ابن رشد الفكري والعلمي متعدد الأبعاد، والذي لم يكن مجرد فيلسوف، بل موسوعة علمية تجسدت فيه روح الحضارة العربية الإسلامية في أوج عطائها. وخلص مستشهدا بكلام ابن رشد عندما أحرقوا كتبه و كان تلميذه يبكي بكاء شديدا فقال له ابن رشد: "يا بني.. لو كنت تبكي على الكتب المحترقة فاعلم أن للأفكار أجنحة وهي تطير بها إلى أصحابها، لكن لو كنت تبكي على حال العرب المسلمين فاعلم أنك لو حولت بحار العالم لدموع لن تكفيك."+
لن أتطرق للشق الثاني من كلام ابن رشد عن حال العرب المسلمين، فذلك يحتاج لأبحاث أكبر من حجم مقال كهذا، بل سأركز أكثر على واقعة حرق الكتب...وهي صورة تذكرنا بمحارق المعرفة عبر التاريخ حيث يُحرق الفكر حين يخشى من قوته. ولو أردنا أ، نخمن أكثر عن السبب فثمة أسئلة تدور في هذا الفلك تطرح نفسها: لماذا يحرق الإنسان الكتب؟ هل بدافع الخوف من المختلف؟ من فقدان السيطرة؟ هل هو احتقار للذاكرة الجمعية؟ أيمكننا هنا استحضار مفكرين مثل ميشيل فوكو أو إدوارد سعيد في تفكيك العلاقة بين السلطة والمعرفة؟
وأسارع هنا للتذكير بأن حرق الكتب هي ممارسة قديمة استخدمت مرارا كوسيلة للسيطرة على المعرفة، وقمع الأفكار، ومحو الهويات الثقافية أو الدينية، حقا لم تكن واقعة حرق كتب ابن رشد الأولى، وما كانت الأخيرة، فعبر التاريخ ومنذ القرن الأول قبل الميلاد وحتى القرن الرابع الميلادي تم حرق مكتبة الإسكندرية على عدة مراحل؛ وبذلك ضاعت مئات آلاف المخطوطات نتيجة الحرق أو القرارات السياسية الخاطئة 1. وفي العام 213 ق. م. أمر الامبراطور الصيني تشين شي هوانغ بإحراق معظم الكتب الفلسفية (وذلك اشتمل على كتب كونفوشيوس) وكذلك الكتب التاريخية والأدبية غير المتعلقة بالقانون أو الطب أو الزراعة. ( وكذلك تم إعدام العديد من العلماء) وكان الهدف حينها هو توحيد الفكر وتثبيت سلطة الدولة المركزية2. في القرن الخامس عشر جاءت محاكم التفتيش الإسبانية وحرق كتب المسلمين واليهود ممثلة بالتاج الإسباني والكنيسة الكاثوليكية حيث تم إحراق أكثر من 5000 كتاب باللغة العربية في ساحة بيب-رامبلا في غرناطة عام 1501، بأمر من الكاردينال خيمينيث دي سيسنيروس 3. وربما الحدث الأبرز في القرن العشرين بهذا الخصوص كان في ألمانيا (10 أيار 1933) حيث أحرق الطلاب الجامعيون والناشطون النازيون، بأمر من وزير الدعاية حينها غوبلز، آلاف الكتب لمؤلفين يهود، اشتراكيين، أو "غير ألمان" مثل فرويد، ماركس، مان، وآينشتاين، ومن بين ما تم إحراقه أيضا كتب هاينريش هاينه صاحب مقولة ــ ونبوءة، إذا صح التعبير ــ "ينما تُحرق الكتب، سيُحرق البشر لاحقًا.» (هاينرش هاينه، 1821)" 4. وكذلك لم تكن أمريكا مكارثي مختلفة عن هذا النهج في الخمسينيات من القرن الماضي حين قامت جهات حكومية ومحلية بدعم من لجنة النشاطات المعادية لأمريكا بإزالة وإحراق كتب مؤلفين يشتبه في ميولهم الشيوعية مثل لانغستون هيوز، بول روبسون، أو حتى كتب الأطفال التي تحمل طابع "الاشتراكية 5. كذلك أثناء حصار سراييفو عام 1992 قصفت القوات الصربية المكتبة الوطنية بهدف تدمير التراث الثقافي للبوسنيين، ما أدى إلى حرق نحو مليوني كتاب ومخطوطة، منها وثائق عثمانية نادرة 6 وكذلك قامت جهات متطرفة غير رسمية خلال الفوضى الأمنية أثناء غزو العراق (2003) وما بعده بإحراق مكتبات كاملة، من ضمنها كتب نادرة ومؤلفات أدبية وتاريخية من العصر العباسي والحديث 7


ولحرق الكتب نتذكر ما جسدته رواية فهرنهايت 451 لـ راي برادبري، حيث تحرق الكتب لأنها مصدر للشقاء (!) أو لأنها تثير الأسئلة. بطل الرواية، جاي مونتاغ، يكتشف أن الكتب تحمل روح المقاومة، فيختار أن يصبح كتابا حيا يحفظ النصوص في ذاكرته. وكما قال ابن رشد لتلميذه: "للأفكار أجنحة"، فإن برادبري يذكرنا أن الحرق لا يقتل الفكر إذا حمله البشر.
والدرس المشترك بين مأساة حرق الكتب في الواقع وديستوبيا برادبري، هو أن الجهل ينتصر حين يعتقد أن الحرق يقضي على الأفكار. لكن التاريخ يثبت العكس: نصوص ابن رشد نجت بفضل الترجمات العبرية واللاتينية، والكتب المحروقة لأسباب سياسية واجتماعية في أنها صارت رموزا للإلهام، وأبطال فهرنهايت 451 تحولوا إلى مكتبات حية.
لذا، حين نقرأ عن ابن رشد اليوم نتذكر أن الظلام قد يمزق الصفحات لكنه لن يكسر أجنحة الأفكار. وكما قال برادبري: "ليس عليك أن تحرق الكتب لتدمر حضارة، فقط اجعل الناس تتوقف عن قراءتها". فلنقرأ إذن ولنحفظ إرث من قالوا الحقيقة مهما اشتعلت النيران. بعبارة مختصرة: دروس التاريخ تدفعنا لنتأمل قوة الفكر وهشاشة الجهل في آن واحد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
+ وردت بأكثر من مكان: Ibn Rushd: The founder of the rational approach and the most prominent philosophers of Islam : r/progressive_islam
واستخدمها يوسف شاهين بفيلم مصير "Ideas have wings. No one can stop their flight."
:
1. Canfora, L. The Vanished Library. University of California Press, 1990
2. Loewe, M. The Cambridge History of China. Cambridge University Press, 1986.
3. Glick, T. F. Islamic and Christian Spain in the Early Middle Ages. Princeton University Press, 1979.
4. Taylor, F. The Berlin-Burning: The Nazi Book Burnings of 1933. Bloomsbury, 2023.
5. Schrecker, E. Many Are the Crimes: McCarthyism in America. Princeton University Press, 1998.
6. András Riedlmayer, Crimes of War, Crimes of Peace: Destruction of Libraries during War, in Beyond Destruction, MIT Press, 2004.
7. Polastron, L. J. Books on Fire: The Destruction of Libraries throughout History. Thames & Hudson, 2007.
8. Bradbury, R. (2012). Fahrenheit 451 (60th anniversary ed.). Simon & Schuster

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي