قرارات ألإنسان بين حتمية العوامل وقيد السببية

ثائر ابو رغيف
2025 / 4 / 16

كمدخل لمقالي سأستخدم الجبرية وهي مدرسة لاهوتية إسلامية تنسب كل أفعال الإنسان إلى إرادة الله المطلقة، ناكرةً أي دور حقيقي لإرادة الإنسان في خياراته. نشأ هذا المذهب في سياق الجدل الكلامي المبكر حول "القدر" و"حرية الإرادة"، الذي شغل الفكر الإسلامي منذ القرن الأول الهجري، خصوصًا مع ظهور فرق مثل القدرية (الذين أكدوا على حرية الإنسان) والجبرية (الذين نفوا ذلك)
استندت الجبرية إلى نصوص قرآنية تُظهر سيطرة الله الكاملة على الكون، مثل
﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ (الإنسان: 30). ﴿وَخُلِقَ كُلُّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ (الفرقان: 2)
يرى الجبريون أن الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة، وأن إنكار الجبر يُضعف مفهوم التوحيد، لأن الإقرار بفعل مستقل للإنسان يُشبه الشرك في الربوبية
ألجهم بن صفوان ألذي يعتبر مؤسس المدرسة الجبرية، قال إن أفعال الإنسان مخلوقة لله، والإنسان مُجبر عليها كالريشة في مهب الريح
من حجج ألجبرية العقلية لو كانت للإنسان إرادة حرة، لتناقض ذلك مع علم الله الأزلي (علمه المسبق بأفعال البشر) كذلك القدرة على الاختيار تُفترض وجود "استقلالية" عن إرادة الله، وهو ما يخالف مفهوم الإسلام عن الإله الكلي القدرة
تبنى بعض المتصوفة أفكارًا قريبة من الجبرية، مثل القول بـالفناء في الإرادة الإلهية، حيث يُلغِي العبد إرادته لصالح المشيئة الربانية. لكن هذا مُختلف عن الجبرية الكلاسيكية، كونه نتاج تجربة روحية وليس تنظيرًا كلاميًا
يتجادل بعض العلماء اليوم حول مدى توافق الجبرية مع نظريات الحتمية البيولوجية (مثل تأثير الجينات على السلوك)، لكن الفارق يبقى أن الجبرية ترى الله مصدرًا للتقدير، وليس الطبيعة العمياء

سأدخل في لب مقالي هذا وفيه ألكثير من الجبرية, تخيل للحظة أنك ألفرد، شخص وُلد في ظروف معينة، تربى في بيئة محددة، وتشكلت شخصيته عبر تفاعل لا نهائي من التجارب. كل قرار تتخذه، من أبسط الأمور كاختيار فنجان قهوتك الصباحية، إلى قرارات مصيرية كالزواج أو المهنة، يبدو وكأنه نتاج إرادتك الحرة. لكن ماذا لو كانت كل هذه القرارات محكومة بعوامل سبقت وجودك، أو رافقتك منذ الولادة حتى لحظة الاختيار؟ هذا هو المأزق الوجودي الذي يواجهه ألفرد، حيث تصبح "حريته" مجرد وهم، وقراراته محصلة حتمية لسلسلة لا تنتهي من الأسباب والنتائج
تبدأ قصة ألفرد قبل ولادته. فجيناته، الموروثة من والديه، تحدد ميوله النفسية، قدراته العقلية، وحتى استعداده للإصابة بأمراض قد تؤثر على قراراته لاحقًا بنسبة تصل إلى 40% في سمات الشخصية كالاندفاعية أو الحذر، وهي سمات تحدد كيفية تقييم ألفرد للخيارات في دراسة نشرتها مجلة Nature Neuroscience
ألعامل الأكثر أهمية هو الأسرة، المدرسة، والثقافة المحيطة ألتي تشكل نظامًا معقدًا من القيم والمعتقدات. لو نشأ ألفرد في مجتمع يُقدس الوظائف التقليدية، فاحتمال اختياره مهنة كالطب بدل الفن سيكون أعلى، حتى لو كان يميل إلى الإبداع. عالم النفس إريك إريكسون يرى أن الهوية تتشكل عبر أزمات نفسية متتالية، كل منها يُحسم وفقًا للدعم أو النقد الذي يتلقاه الفرد
ويجب أن لا نغفل دورالحوادث العشوائية كالتعرف على صديق مؤثر، أو خسارة وظيفة تُعيد توجيه مسار ألفرد. لكن حتى هذه "الصدف" ليست مستقلة عن سياقه. فقرار الذهاب إلى مكان ما (حيث حدثت الصدفة) كان نتاج دوافع مبنية على عوامل سابقة كأن نذهب لمقهى معين دون غيره
حسب الفيلسوف باروخ سبينوزا الامر يتعلق بحتمية مطلقة ، فالإنسان كحجر يسقط بفعل الجاذبية: قد يعتقد أنه يقرر مساره، لكنه في الحقيقة يخضع لقوانين الطبيعة. الفيزيائي ݒيير لاݒلاس تخيل كونًا كآلة عملاقة، حيث يمكن معرفة كل حدث مستقبلي بمعرفة كل ذرة في الحاضر
تجربة بنيامين ليبت (1983) أظهرت أن النشاط الدماغي يسبق الإدراك الواعي للقرار بثوانٍ، ما يشير إلى أن "القرار" وهمي، ومجرد تصديق لاحق لعملية دماغية حتمية.
يرى فلاسفة مثل دانييل دينيت أن الحرية لا تعني انعدام الأسباب، بل القدرة على التصرف وفقًا لرغباتك دون إكراه خارجي. لكن في حالة ألفرد، حتى رغباته مُشَكَّلة مسبقًا، مما يجعل هذه الحرية نسبية
إذا كان ألفرد مجرد دمى تتحكم بها خيوط السببية، فكيف نحاسبه على جرائمه؟ بعض الفلاسفة يقترحون أن النظام القانوني يجب أن يتحول من العقاب إلى الوقاية، كإصلاح الظروف التي تنتج المجرمين
إن نجاح ألفرد في عمله أو فشله ليس دليلًا على تفوقه الأخلاقي، بل نتيجة شبكة معقدة من الفرص والدعم. دراسة لـ جامعة هارفارد تُظهر أن 70% من النجاح المهني مرتبط بالبيئة (الأسرة، التعليم، المعارف)
تُذكر بعض الأنظمة الحتمية لكنها غير قابلة للتنبؤ بسبب حساسيتها للشروط الأولية. فقرارات ألفرد حتمية، لكن لا يمكن توقعها عمليًا، مما يخلق وهم حرية الإرادة
قصة ألفرد تدفعنا لإعادة النظر في مفهوم "الذات". إذا كنا جميعًا محصلة عوامل خارجة عن سيطرتنا، فربما تكون الرحمة مع أنفسنا والآخرين هي الدرس الأعمق. كما قال ألبرت آينشتاين
"الإنسان كيان محدود... يدرك أن كل ما يعيشه هو هبة، وليس حقًا مكتسبًا"

السؤال الأهم ليس هل نستطيع الاختيار، بل كيف نعيش في عالم تُقرر فيه خياراتنا، بينما نتمسك بفكرة أننا رغم كل شيء أبطال قصصنا الخاصة رغم كوننا ابطال روايات خيالية كتبها أله لم يجد مايلهيه.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي