المرجعيات الفلسفية للبنيوية

علي حسين يوسف
2025 / 3 / 22

ظهرت البنيوية في القرن العشرين لتمثل ردة فعل على المناهج التقليدية في الفلسفة والعلوم الإنسانية، متأثرة بجملة من المرجعيات الفلسفية التي أسهمت في بلورة تصورها للعالم والنص والمجتمع. إذ لم تنشأ البنيوية من فراغ، بل جاءت امتدادا وتجاوزا لنظريات سابقة، تحمل معها إرثا فلسفيا معقدا يستمد جذوره من اللغويات، والأنثروبولوجيا، والفينومينولوجيا، والمادية الجدلية، والتقاليد الفلسفية التي سبقتها.
في الفلسفة، يمكن رؤية تأثير البنيوية في نقدها للذاتية والمركزية الإنسانية التي هيمنت على الفكر الغربي منذ ديكارت. البنيوية، بتأكيدها على أن الفرد محكوم ببنى اجتماعية وثقافية ورمزية، قلّصت من دور الذات بوصفه مركزا للمعنى. هذا النقد يتقاطع مع أفكار ميشيل فوكو، الذي رأى أن المعرفة والسلطة مرتبطتان ببنى تاريخية تتحكم في إنتاج الخطابات وتحديد ما يمكن قوله أو التفكير فيه في حقبة معينة.
أحد الجذور العميقة للبنيوية هو الفهم الديكارتي للعقل بوصفه نسقا مغلقا يبحث عن القوانين التي تحكم الفكر. لكن على خلاف ديكارت الذي شدد على الأنا المفكرة بوصفها حجر زاوية للمعرفة، عملت البنيوية على زحزحة مفهوم الذات العارفة، موجهة الاهتمام نحو البنى التي تؤطر الفكر وتشكّل أنظمته المستترة. هنا يظهر التأثير الكانتي، حيث يمكن القول إن البنيوية ورثت من كانت فكرته حول وجود مبادئ قبلية تنظّم الإدراك، لكنها استبدلت هذه المبادئ بالبنى العميقة التي لا يدركها الوعي الفردي.
أما التأثير الهيغلي، فقد تجلّى في الاهتمام بالبنية بوصفها نسقا متكاملا، حيث يرى الفكر الهيغلي أن الظواهر لا يمكن فهمها إلا في علاقتها ببعضها البعض داخل سيرورة جدلية، غير أن البنيوية رفضت الطابع التاريخي الجدلي لهيغل، مفضلة البحث عن التراكيب الثابتة التي تشكّل البنية العميقة للظواهر. هذا الرفض للتاريخانية يتقاطع مع تأثير نيتشه، الذي زعزع مركزية الذات وعرّى الأسس الميتافيزيقية التي قامت عليها الفلسفة الغربية. من هنا، نجد أن البنيوية تنهل من نيتشه فكرة اللاذاتية، حيث يتحول الفاعل إلى مجرد نتاج لبنية لغوية واجتماعية، ما قاد لاحقًا إلى الموقف البنيوي الراديكالي الذي أعلنه فوكو ولاكان حول (موت الإنسان) وغياب الذات المستقلة.
يتداخل هذا المنظور مع تأثير الفينومينولوجيا، خاصة مع هوسرل، الذي سعى إلى الكشف عن البنى الأساسية للوعي. لكن بينما أراد هوسرل استعادة يقين المعنى من خلال تحليل تجربة الوعي، قامت البنيوية بقلب هذا المشروع، معتبرة أن المعنى ليس نتاجًا للذات، بل هو محكوم بقواعد نسقية لا واعية. هنا يظهر ليفي-شتراوس الذي، متأثرًا بالسوسيريانية، رأى أن الثقافة تعمل كنسق لغوي تحكمه بنيات عميقة غير مدركة.
لقد أسهمت الأنثروبولوجيا ، خاصة عبر أعمال كلود ليفي شتراوس، في توسيع نطاق البنيوية لتشمل الثقافة والمجتمع. اعتبر ليفي شتراوس أن الثقافات الإنسانية يمكن فهمها من خلال تحليل البنى الكامنة التي تنظمها، مثل أنظمة القرابة والأساطير. هذه البنى، وفقا له، تعكس أنماطا عالمية من التفكير البشري، مما يجعل البنيوية أداة لفهم التنوع الثقافي عبر إطار شامل.
هذه النقلة من الذات إلى البنية تجد صداها في فكر ألتوسير، الذي حاول توظيف المنهج البنيوي في قراءة الماركسية، حيث استبدل العامل التاريخي بالتحليل البنيوي لأنماط الإنتاج، رافضًا النزعة الإنسانية التي رآها انحرافًا عن جوهر الماركسية العلمية.
الماركسية نفسها كانت إحدى المرجعيات الكبرى للبنيوية، رغم أن الأخيرة رفضت النزعة الجدلية في المادية التاريخية، إلا أنها احتفظت بمفهوم الحتمية البنيوية الذي يتجلى في قراءة ألتوسير، والذي يرى أن الأفراد ليسوا فاعلين بقدر ما هم محكومون بالبنى الأيديولوجية التي تحدد أنماط وعيهم وممارساتهم. هذه الفكرة تعكس صدى التحليل الفرويدي، حيث يظهر اللاوعي بوصفه نظامًا مستقلا عن سيطرة الوعي، مما دفع لاكان إلى إعادة قراءة فرويد من منظور بنيوي، جاعلا اللاوعي ذاته بنيةً تخضع لنظام اللغة، وهكذا تم تفكيك مفهوم الذات الحرة المستقلة واستبداله بفكرة الإنسان كذات مجزأة تخضع لأنظمة رمزية سابقة عليه.
أيضا، يمكن النظر إلى البنيوية بوصفها رد فعل على الحداثة وفكرة التقدم الخطي. من خلال التركيز على البنى الثابتة التي تنظم الظواهر، قدمت البنيوية رؤية مغايرة لفكرة التطور التاريخي، حيث يتم التركيز على العلاقات التزامنية (synchronic) بدلًا من التتابع الدياكروني (diachronic). هذا التحول في المنهجية يعكس تأثيرا من العلوم البنيوية مثل الرياضيات والفيزياء، حيث يتم تحليل الأنظمة من خلال علاقاتها الداخلية بدلًا من تطورها الزمني.

المرجعيات الفلسفية للبنيوية لا تتوقف عند هذه الحدود، بل تمتد إلى التأثير النيتشوي في مفهوم الاختلاف، حيث بدأ هذا المبدأ في التشكل داخل البنيوية ليصل إلى تفكيكية دريدا، الذي كشف أن البنى ذاتها ليست محايدة ولا ثابتة، بل تحتوي على تناقضات كامنة تؤدي إلى تفكيكها من الداخل. بهذا المعنى، مثلت البنيوية لحظة فاصلة بين الحداثة وما بعدها، حيث حملت تراث الفلسفة الغربية إلى أقصى حدوده قبل أن تفضي إلى تجاوزه.
في النهاية، يمكن القول إن المرجعيات الفلسفية للبنيوية تعكس تفاعلًا معقدا بين اللغويات والأنثروبولوجيا والفلسفة، مما جعلها تيارا فكريا متعدد الأبعاد. ومع ذلك، فإن البنيوية لم تخلُ من الانتقادات، خاصة فيما يتعلق بإهمالها للسياقات التاريخية والاجتماعية المحددة، وهو ما أدى لاحقًا إلى ظهور ما بعد البنيوية كرد فعل على هذه القيود.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي