التسامح والمصالحة: قوة الأمم في مواجهة أحقاد الماضي

أكرم شلغين
2025 / 2 / 25

يُروى أن نيلسون مانديلا، بعد أن أصبح رئيسا لجنوب إفريقيا، دعا أحد حراس السجن الذين أساؤوا معاملته سابقا لتناول الطعام معه. كان الحارس يرتجف خوفا، وعندما سُئل عن السبب قال إنه لا يصدق أن مانديلا يعامله بلطف بعد كل ما فعله به. فجاء رد مانديلا يحمل حكمة التاريخ: "الكراهية لن تحررني، بل التسامح هو ما يجعلني حرا."
رغم قضائه 27 عامًا في السجن تحت نظام الفصل العنصري، إلا أنه عندما تولى الحكم، لم يترك الانتقام يفسد مسيرة شعبه، بل دعا إلى المصالحة الوطنية، وأثبت أن القوة الحقيقية لا تكمن في الثأر، بل في القدرة على تجاوز الألم لبناء مستقبل أكثر إشراقا.
مانديلا لم يكن وحده في هذا الطريق والتاريخ يفيض بقادة أدركوا أن التسامح ليس ضعفا بل هو أعظم أشكال القوة. المهاتما غاندي واجه العنف البريطاني بالمقاومة السلمية وحتى بعد اغتيال ابنه على يد متطرف هندوسي لم يسعَ للانتقام بل دعا إلى السلام. مارتن لوثر كينغ جونيور، رغم التهديدات والمضايقات، ظل يدعو إلى اللاعنف، مؤمنا أن الكراهية لا تجلب سوى المزيد من العنف والدمار.
وفي التاريخ الإسلامي، بعد أن استعاد صلاح الدين الأيوبي القدس عام 1187 لم يرتكب مجزرة انتقامية كما فعل الصليبيون عند احتلال المدينة بل سمح لهم بالمغادرة بأمان، مجسدا نموذج القائد الحكيم الذي يسعى للاستقرار بدلا من تأجيج الأحقاد. وكذلك فعل الإمبراطور الفيتنامي نغوين فوك أنهه في القرن التاسع عشر حين رفض الانتقام من خصومه موقنا أن بناء الأمم يحتاج إلى السلام لا إلى دوامة الثأر.
بعد هذا الموجز لنتذكر معا ضرورة المصالحة الوطنية في بلدنا المنكوب منذ ما يزيد على نصف قرن... و المصالحة الوطنية ليست مجرد خطاب عاطفي بل هي حجر الأساس لنهضة الشعوب وتماسك الدول. المجتمعات التي تتجاوز آلام الماضي وترأب الصدع بين أبنائها تكون أكثر استقرارا وقوة وهو ما ينعكس إيجابا على كل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ومن الجدير بالذكر هنا أن المصالحة لا تعني التغاضي عن العدالة بل تعني تحقيقها دون أن يتحول الماضي إلى قيود تعيق المستقبل. الدول التي قامت على التسامح والمصالحة لا على الثأر والانتقام كانت الأقدر على الصمود أمام العواصف الداخلية والخارجية وهو ما يعزز موقعها في المجتمع الدولي، ويفتح لها آفاقا جديدة من التعاون والازدهار.
نحن في واقع لا نحسد عليه فأخبار الأمس حملت تطورات خطيرة، إذ يسعى رئيس وزراء العدو ليس فقط إلى جعل المنطقة الجنوبية من البلاد خالية من السلاح، بل يهدد من يحاول النيل من الدروز. ورغم أن الدروز لا يحتاجون شهادة وطنية تثبت مواقفهم، إلا أن الشرخ الذي حدث في السنوات الماضية يتطلب طمأنة حقيقية. ليس عبر الوعود، بل بواقع جديد يؤسس لمواطنة حقيقية ودستور يحمي حقوق الجميع.
على الضفة الأخرى، المشهد في الشرق والشمال معقد؛ فهناك مناطق تحظى بحماية خارجية، وأخرى ما زالت في صراع هوياتي وسياسي. كل هذا يضع البلاد أمام خيارات أحلاها مرّ. استمرار الممارسات الانتقامية في وسط البلاد، وحمص تحديدا، يفتح الباب أمام قوى خارجية لتبرير تدخلها بحجة الدفاع عن فئة من الشعب وهو سيناريو رأيناه مرارا في أماكن عدة.
لذلك، فإن الحل الأكثر حكمة ليس الغرق في مستنقع الماضي بل في التعالي على الجراح والتوجه نحو المستقبل بروح جديدة. التجربة أثبتت أن الأنظمة التي ترى في شعوبها خصما، تُهلك نفسها قبل أن تُهلك غيرها. إن النهج المستنير للدولة يجب أن يقوم على العدل، لا على تصفية الحسابات وعلى المصالحة الوطنية لا على فرض الهيمنة بقوة السلاح.
التاريخ لا يرحم من يكرر أخطاءه. إذا لم تُبْنَ الأوطان على أسس المساواة والمواطنة والعدالة ودستور عادل يحمي الجميع وعلى مسافة واحدة منهم، فإنها تظل رهينة للفوضى والصراعات. والتسامح هنا ليس ضعفا، بل هو خيار الأقوياء الذين يريدون أن يورثوا لأبنائهم وطنا يستحقونه، لا ساحة معارك لا تنته

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي