إعادة بناء الحقيقة: تأثير توما الأكويني في الفكر الفلسفي الغربي

حمدي سيد محمد محمود
2025 / 2 / 18

لطالما كان الفكر الفلسفي أحد الأعمدة التي ارتكزت عليها الحضارات في سعيها لفهم الوجود ومعناه، وللإجابة على الأسئلة الجوهرية التي تثيرها طبيعة الحياة والإنسان والعلاقة مع المطلق. وفي خضم هذا البحث، ظهرت أسماء خالدة في التاريخ، لم تقتصر على التأمل الفلسفي المجرد، بل كانت جسراً بين العقل والروح، بين الفلسفة والدين، ومن أبرز هذه الأسماء يأتي القديس توما الأكويني.

إن توما الأكويني ليس مجرد فيلسوف لاهوتي عاش في العصور الوسطى، بل هو رمزٌ لعصرٍ كامل، وشاهدٌ على لحظة فارقة في تاريخ الفكر الإنساني. في عصر كانت فيه أوروبا تُصارع بين ظلمات الجهل وتطلعات النهضة الفكرية، برز الأكويني كمنارة تُضيء الطريق، جامعاً بين التراث الفلسفي الإغريقي، خصوصاً أرسطو، وتعاليم الإيمان المسيحي. لقد مثلت فلسفته نموذجاً فريداً للمصالحة بين العقل والإيمان، بين العقلانية والوحي، في وقت كان الصراع بين هذين الجانبين يحتدم في الثقافة الأوروبية.

ولعل ما يميز الأكويني عن غيره من فلاسفة عصره هو جرأته الفكرية، التي دفعته إلى إعادة قراءة النصوص الأرسطية بروح نقدية وعقلية مسيحية، متحدياً بذلك النزعة التي كانت تعتبر الفلسفة الوثنية خطراً على العقيدة. لم يكن هدفه التقويض أو التشكيك، بل بناء نظام فكري متماسك يُظهر أن الحقيقة، سواء جاءت من العقل أو الوحي، هي واحدة في أصلها الإلهي.

أثر فلسفة الأكويني تجاوز حقبته الزمنية ليصبح جزءاً لا يتجزأ من الفكر الأوروبي اللاحق. فقد أعاد تشكيل بنية الفكر السكولائي (المدرسي)، وكان حجر الزاوية في تطور اللاهوت الكاثوليكي، وفتح أبواباً جديدة أمام النقاش الفلسفي حول الأخلاق، القانون، والسياسة. بل إن بصماته الفكرية امتدت إلى عصر النهضة وعصر التنوير، حيث أثرت على تطور المفاهيم الحديثة للحقوق الطبيعية والقوانين الأخلاقية.

في هذه الدراسة، نسلط الضوء على فلسفة توما الأكويني من جميع جوانبها، مستعرضين عمق رؤيته الميتافيزيقية، ومنهجه في التوفيق بين الإيمان والعقل، ومساهماته في الأخلاق والسياسة، فضلاً عن تأثيره العميق على الفلسفة الأوروبية بأسرها. إنها محاولة لفهم هذا العقل الفذ الذي جمع بين الإبداع الفلسفي والالتزام الإيماني، وترك إرثاً فكرياً يُعد من أعظم ما أنتجته الحضارة الإنسانية.

توما الاكويني

توما الأكويني (1225-1274) هو أحد أعظم فلاسفة العصور الوسطى واللاهوتيين الكاثوليك. ارتبطت فلسفته بجهوده في التوفيق بين الإيمان والعقل، ودمج الفلسفة اليونانية، خاصةً أرسطو، مع العقيدة المسيحية. شكّلت أفكاره حجر الزاوية للفكر اللاهوتي والفلسفي الغربي لقرون طويلة.

فلسفة توما الأكويني: الجوهر والمضمون

1. الإيمان والعقل

أحد أعظم مساهمات الأكويني هي الدفاع عن الانسجام بين الإيمان والعقل.

- الإيمان: يعتبر الأكويني أن الإيمان يتعلق بما يتجاوز العقل البشري، مثل العقائد الدينية كالخلق والخلاص، التي يُفترض قبولها بالوحي الإلهي.

- العقل: يرى أن العقل البشري قادر على معرفة الحقائق الطبيعية والأخلاقية وحتى إثبات وجود الله، دون الحاجة إلى الوحي.

- التكامل: اعتبر أن الحقيقة واحدة، وإذا بدا تناقض بين الإيمان والعقل، فإن ذلك يعود إلى قصور في الفهم البشري.

2. الميتافيزيقا

تأثر الأكويني بشكل رئيسي بأرسطو في بناء نظريته الميتافيزيقية، لكنه أضفى عليها طابعاً دينياً:

- نظرية الجوهر والعرض: استعار الأكويني من أرسطو مفهوم الجوهر (ما يجعل الشيء ما هو عليه) والعرض (الصفات التي تميّز الجوهر دون أن تغيّر هويته).
- الوجود والكائن: ميّز الأكويني بين الوجود (act of being) وماهية الكائن (essence)، مشيراً إلى أن الوجود في الكائنات المخلوقة مستمد من الله.
- الله كمبدأ أول: يرى أن الله هو السبب الأول والنهائي لكل شيء، وهو الكائن الوحيد الذي يتطابق فيه الوجود مع الماهية.

3. الأخلاق والشريعة الطبيعية

الأكويني قدّم نظرية الشريعة الطبيعية (Natural Law)، التي ترتكز على أن الأخلاق تنبع من طبيعة الإنسان العقلية، وأن هناك قوانين أزلية وضعها الله تحكم الكون.
رأى أن البشر يستطيعون معرفة الخير والشر من خلال العقل، وبالتالي فإن القوانين الأخلاقية ليست مجرد وحي، بل هي مكتوبة في طبيعة البشر.

4. لاهوت الأكويني

- اللاهوت الطبيعي: استند إلى الأدلة العقلية لإثبات وجود الله، مثل "الدليل الكوني" (السببية) و"الدليل الغائي" (النظام في الكون).

- الخلق: اعتبر أن الكون مخلوق من العدم بإرادة الله، لكنه يرتبط به من خلال القوانين التي تحكمه.

- الخلاص: رأى أن النعمة الإلهية لا تُلغي حرية الإنسان، بل تتعاون معها لتحقيق الخلاص.

تأثير توما الأكويني في الفلسفة الأوروبية

1. إحياء الفلسفة الأرسطية

لعب الأكويني دوراً محورياً في إعادة اكتشاف الفلسفة الأرسطية في أوروبا الغربية. من خلال تفسيراته وتوفيقه بين أرسطو والمسيحية، أصبح أرسطو جزءاً لا يتجزأ من الفكر الأوروبي.

2. تطوير الفلسفة المدرسية (السكولائية)

يُعتبر الأكويني من أبرز أعلام الفلسفة السكولائية، التي حاولت دمج العقلانية مع اللاهوت المسيحي. منهجه الجدلي أثّر في تطور الفكر الأكاديمي والجامعي في أوروبا.

3. تأثيره على الكنيسة الكاثوليكية

أعماله مثل "الخلاصة اللاهوتية" (Summa Theologica) أصبحت مرجعاً أساسياً للتعليم اللاهوتي في الكنيسة الكاثوليكية، وتم إعلان فلسفته كتعليم رسمي للكنيسة منذ القرن السادس عشر.

4. تأثيره على القانون والسياسة

نظرية الشريعة الطبيعية أثّرت في تطور القانون الطبيعي الأوروبي. اعتُبرت أفكاره أساساً للعديد من النظريات السياسية والأخلاقية التي تركز على حقوق الإنسان والقانون.

5. إرثه في عصر النهضة والتنوير

خلال عصر النهضة، استمرت أفكار الأكويني في التأثير على الفلاسفة المسيحيين. وفي عصر التنوير، أثرت نظرياته على مفكرين مثل جون لوك الذي استفاد من مفهوم الشريعة الطبيعية.

6. التأثير الحديث والمعاصر

ظل تأثيره بارزاً في اللاهوت الكاثوليكي الحديث، خاصةً في مواجهة التيارات العقلانية والعلمانية. البابا ليون الثالث عشر دعا في القرن التاسع عشر إلى العودة لفلسفة الأكويني كمرجع أساسي، فيما عُرف بـ"النهضة التوماوية".

وهكذا نرى أن توما الأكويني يمثّل نموذجاً فريداً في الفكر الفلسفي الأوروبي، حيث دمج بين العقل والإيمان، وأعاد صياغة الفلسفة اليونانية ضمن سياق مسيحي لاهوتي. أثّرت أفكاره على كل من اللاهوت، الفلسفة، الأخلاق، القانون، والسياسة، مما جعله أحد أعظم المفكرين في التاريخ الغربي. إرثه الفكري ما زال حيّاً، يُستشهد به في النقاشات الفلسفية واللاهوتية حتى اليوم.

في ختام هذا الاستعراض لفلسفة توما الأكويني، يتبين لنا أن هذا الفيلسوف لم يكن مجرد مفكر عابر في تاريخ الفكر الغربي، بل كان رمزاً لفكرٍ إنساني قوامه التوازن بين العقل والإيمان، بين العلم والدين. لقد بنى الأكويني منظومة فكرية تتجاوز حدود الزمان والمكان، مساهماً في صوغ معالم الفلسفة المدرسية التي ستظل محورية في العقل الغربي لقرون طويلة. لقد حمل في طيات فلسفته روحاً من التفكر العميق والنقد البناء، مدافعاً عن دور العقل في فهم الحقائق الكبرى، دون أن يُغفل البُعد الروحي في تفسيره للوجود والحياة.

بفضل رؤيته التوحيدية بين العقل والوحي، أصبح الأكويني رمزاً للتكامل الفكري الذي يعكس قدرة الإنسان على التفاعل مع المجهول والمقدس بطريقة عقلانية ومتوازنة. لم يقتصر تأثيره على المجال الفلسفي، بل امتد ليشمل اللاهوت والأخلاق والقانون والسياسة، حيث شكّلت أفكاره حجر الزاوية للعديد من الأنظمة الفكرية التي سادت في العالم الغربي. فقد ألهمت فلسفته تطور المفاهيم الحديثة حول حقوق الإنسان، والشريعة الطبيعية، وعلاقة السلطة بالحرية، وفتحت المجال أمام حوار لا ينتهي بين الفلسفة الدينية والفلسفة العقلانية.

وفي عالمنا المعاصر، حيث تعصف به التحديات الفكرية والأيديولوجية، يظل إرث توما الأكويني بمثابة منارة تُضيء الطريق للباحثين والمفكرين في سعيهم للبحث عن الحقيقة في تقاطع العقل والإيمان. لقد أثبت الأكويني، بما لا يدع مجالاً للشك، أن الفلسفة قادرة على أن تكون جسرًا يصل بين ما هو مادي وروحي، بين ما هو عقلاني وما هو مقدس، وأن الإنسانية لا يمكن أن ترتقي دون أن تبني جسرًا من الحوار بين هذه الأبعاد المتنوعة.

إن التأثير العميق لفلسفة توما الأكويني يشهد على قوة الفكر الإنساني في صياغة تصورات جديدة حول الوجود والحياة، ويُحفزنا اليوم على إعادة النظر في أفكارنا الخاصة حول العقل والإيمان، والبحث عن توازنٍ فكريٍ يشمل كل جوانب الإنسان.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي