![]() |
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
![]() |
خيارات وادوات |
حمدي سيد محمد محمود
2025 / 2 / 15
د.حمدي سيد محمد محمود
لطالما اعتمدت الولايات المتحدة على سلاح التجويع كأداة قوية في صراعاتها الجيوسياسية، حيث لم يكن التجويع مجرد أثر جانبي للعقوبات أو الحصار، بل كان في كثير من الأحيان وسيلة مقصودة لإخضاع الخصوم وتحقيق الأهداف الاستراتيجية. فمنذ أوائل القرن العشرين وحتى يومنا هذا، تم توظيف هذه الأداة بطرق متنوعة، سواء عبر الحصار الاقتصادي، أو العقوبات التجارية، أو قطع سلاسل الإمداد الغذائية، أو حتى التلاعب بالمساعدات الإنسانية لتحقيق غايات سياسية.
الحرب العالمية الثانية وبداية الاستراتيجية
بدأت الولايات المتحدة في توظيف سلاح التجويع على نطاق واسع خلال الحرب العالمية الثانية، إذ فرضت حصارًا اقتصاديًا على اليابان قبل اندلاع الحرب، مما أدى إلى تفاقم الأزمة الغذائية داخل البلاد وساهم في تصعيد التوتر الذي انتهى بقصف بيرل هاربر. وخلال الحرب نفسها، تم تطبيق استراتيجية مماثلة ضد ألمانيا عبر تدمير البنية التحتية الزراعية واللوجستية، وهو ما عمّق أزمة الغذاء وأدى إلى مجاعة قاتلة في بعض المناطق الأوروبية.
الحرب الباردة: التجويع كأداة للهيمنة
مع دخول العالم مرحلة الحرب الباردة، استخدمت الولايات المتحدة سلاح التجويع بشكل أكثر دقة وفعالية، لا سيما في تعاملها مع الدول الاشتراكية والمناهضة لنفوذها. فقد فرضت حصارًا خانقًا على كوريا الشمالية أثناء الحرب الكورية (1950-1953)، مما أدى إلى مجاعات مروعة أثرت على الملايين. وفي كوبا، استخدمت واشنطن الحصار الاقتصادي المستمر منذ عام 1960 بهدف خنق الاقتصاد وإضعاف النظام الحاكم عبر خلق أزمات غذائية متكررة، وهو ما جعل الشعب الكوبي يعاني من نقص المواد الأساسية لعقود.
وفي الشرق الأوسط، استخدمت الولايات المتحدة استراتيجية التجويع بشكل أكثر تعقيدًا، حيث فرضت عقوبات اقتصادية قاسية على العراق بعد غزوه للكويت عام 1990. كان برنامج العقوبات الذي استمر طوال التسعينيات سببًا رئيسيًا في انهيار الأمن الغذائي في البلاد، ما أدى إلى وفاة مئات الآلاف، خاصة من الأطفال، بسبب نقص الغذاء والدواء. وقد وصفت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك، مادلين أولبرايت، موت نصف مليون طفل عراقي نتيجة العقوبات بأنه "ثمن يستحق الدفع"، في تعبير صارخ عن توظيف التجويع كأداة سياسية.
القرن الحادي والعشرون: العقوبات كسلاح قاتل
مع مطلع الألفية الجديدة، لم تتخلَّ الولايات المتحدة عن سلاح التجويع، بل طوّرت أساليب أكثر تعقيدًا وفعالية. فمن خلال فرض عقوبات اقتصادية قاسية على إيران، سعت إلى خنق الاقتصاد الإيراني عبر منع صادراته الحيوية، مما أدى إلى تدهور الوضع المعيشي وارتفاع أسعار الغذاء بشكل غير مسبوق. كما لعبت العقوبات المفروضة على فنزويلا منذ عام 2017 دورًا محوريًا في الأزمة الاقتصادية الحادة التي تعاني منها البلاد، حيث أصبح الحصول على الغذاء والدواء تحديًا يوميًا للملايين.
أما في سوريا، فقد مثلت العقوبات الأمريكية، وخاصة "قانون قيصر"، نموذجًا واضحًا لاستراتيجية التجويع الحديثة، حيث ساهمت بشكل مباشر في انهيار العملة السورية، وارتفاع أسعار الغذاء، وتفاقم الأزمة الإنسانية. وبالمثل، كان للحصار المفروض على اليمن، سواء من قبل التحالف الذي تدعمه واشنطن أو من خلال القيود الأمريكية المباشرة، دور جوهري في تفاقم المجاعة التي وصفتها الأمم المتحدة بأنها "أسوأ أزمة إنسانية في العالم".
الوجه الجديد لسلاح التجويع: حرب الغذاء العالمية
في السنوات الأخيرة، ومع تصاعد الأزمات العالمية، ازداد استخدام الغذاء كسلاح سياسي. فقد استغلت الولايات المتحدة تحكمها في النظام المالي العالمي لتقييد قدرة بعض الدول على استيراد المواد الغذائية الأساسية. وفي سياق الصراع الروسي الأوكراني، برزت الأزمة الغذائية العالمية كنتيجة مباشرة للعقوبات الغربية، حيث تم التلاعب بإمدادات القمح والأسمدة، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار عالميًا وتأثر الدول النامية بشكل خاص.
لم يعد سلاح التجويع يقتصر على العقوبات والحصار، بل أصبح يشمل آليات أكثر تعقيدًا مثل التلاعب بأسواق الغذاء العالمية، واستخدام المساعدات الإنسانية كأداة ضغط، وفرض شروط قاسية على الدول المحتاجة. وهكذا، فإن الولايات المتحدة، التي تتحدث عن حقوق الإنسان والعدالة، لا تتردد في تجويع الشعوب عندما يخدم ذلك أهدافها الاستراتيجية، مما يجعل سلاح التجويع واحدًا من أكثر الأدوات وحشية في الصراع الدولي.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |