حق العودة الفلسطيني: جوهر القضية أم عقبة أمام التسويات السياسية؟

حمدي سيد محمد محمود
2025 / 2 / 7

د.حمدي سيد محمد محمود

حق العودة الفلسطيني ليس مجرد مطلب سياسي أو قانوني، بل هو جوهر القضية الفلسطينية ولبّ الصراع العربي-الإسرائيلي، إذ يعبر عن حق تاريخي وإنساني لشعب اقتُلع من أرضه بفعل الاحتلال والتهجير القسري. منذ نكبة عام 1948، تحوّل الفلسطينيون إلى أكبر مجموعة لاجئين في العالم، يتوزعون في الشتات، حاملين مفاتيح منازلهم القديمة كرمز للأمل بالعودة. ومع ذلك، ظل هذا الحق يتعرض لمحاولات الطمس والتهميش وسط تعقيدات القانون الدولي والمواقف السياسية المتضاربة. فهل يمكن لهذا الحق أن يجد طريقه إلى التحقق وسط المعادلات الإقليمية والدولية المتغيرة؟
الجذور التاريخية لحق العودة

تعود قضية اللاجئين الفلسطينيين إلى عام 1948، عندما طُرد ما يقرب من 800 ألف فلسطيني من مدنهم وقراهم بفعل المجازر والعمليات العسكرية الصهيونية التي هدفت إلى تغيير الواقع الديمغرافي في فلسطين. وشكّل تهجيرهم جزءًا من مخطط ممنهج لخلق دولة يهودية نقية على حساب السكان الأصليين. ورغم مرور أكثر من سبعة عقود، لا يزال اللاجئون الفلسطينيون يتمسكون بحق العودة، باعتباره حقًا تاريخيًا وثابتًا غير قابل للتفاوض أو التفريط.

الأساس القانوني لحق العودة

من الناحية القانونية، يستند حق العودة إلى جملة من القرارات الدولية، وعلى رأسها القرار الأممي رقم 194 الصادر عام 1948، والذي ينص بوضوح على حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم وتعويضهم عن الأضرار التي لحقت بهم. كما تعزز اتفاقيات جنيف ومبادئ القانون الدولي الإنساني هذا الحق، حيث تمنع التهجير القسري وتحظر الاستيلاء على أراضي السكان الأصليين بالقوة. ومع ذلك، لا يزال هذا الحق يواجه عراقيل سياسية وقانونية، في ظل تعنت إسرائيل ورفضها الامتثال للقرارات الدولية، وتواطؤ بعض القوى الكبرى في إجهاض تنفيذها.

البعد السياسي لحق العودة الفلسطيني

حق العودة الفلسطيني ليس مجرد قضية قانونية أو إنسانية، بل هو جوهر الصراع السياسي الذي يمتد لأكثر من سبعة عقود بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي. منذ نكبة 1948، تحول هذا الحق إلى نقطة ارتكاز في كافة المفاوضات والتسويات السياسية، لكنه ظل عقبة كبرى أمام أي حل نهائي للقضية الفلسطينية، بسبب الرفض الإسرائيلي القاطع له، والدعم الغربي لهذا الرفض، في مقابل الإصرار الفلسطيني على التمسك به كحق غير قابل للتنازل أو المقايضة. ومع تصاعد التحولات الإقليمية والدولية، يتخذ البعد السياسي لحق العودة أبعادًا أكثر تعقيدًا، إذ يتداخل مع التغيرات الجيوسياسية، واتفاقيات التطبيع، وصفقات التسوية، والمواقف العربية والدولية المتباينة. فكيف أثرت هذه العوامل على مسار هذا الحق؟ وهل يمكن أن يعود إلى طاولة التفاوض أم أن هناك مخططات لتصفيته نهائيًا؟

أولًا: الرفض الإسرائيلي لحق العودة ودوافعه السياسية

إسرائيل تعتبر حق العودة تهديدًا وجوديًا لمشروعها الصهيوني، إذ يعني من الناحية الديمغرافية إنهاء فكرة "الدولة اليهودية"، وتحويلها إلى دولة ذات غالبية فلسطينية. لذلك، تبنت إسرائيل عبر تاريخها موقفًا ثابتًا يقوم على رفض أي صيغة تعترف بحق اللاجئين في العودة، وعملت على فرض هذا الموقف في أي مسار تفاوضي، سواء عبر اتفاقيات أوسلو، أو محادثات كامب ديفيد، أو محاولات التسوية المختلفة.

لتحقيق هذا الرفض، اعتمدت إسرائيل استراتيجيات سياسية متباينة، أبرزها:

1. فرض واقع استيطاني جديد يجعل العودة غير ممكنة عمليًا، حيث جرى تدمير مئات القرى الفلسطينية المهجرة، وإحلال مستوطنات إسرائيلية محلها.
2. استخدام النفوذ الدبلوماسي لطمس القرارات الدولية المتعلقة بحق العودة، والعمل على تقويض دور وكالة "الأونروا" التي ترعى اللاجئين الفلسطينيين، باعتبارها شاهدًا دوليًا على النكبة.
3. تقديم حلول توطينية بديلة بدعم من بعض القوى الدولية، تقوم على توطين اللاجئين الفلسطينيين في أماكن لجوئهم، ومنحهم حقوق المواطنة الكاملة في الدول المضيفة، بهدف تصفية قضيتهم تدريجيًا.
4. الضغط على الدول العربية والإسلامية لقبول تسويات لا تتضمن حق العودة، عبر اتفاقيات التطبيع وصفقات السلام المنفصلة.

ثانيًا: الموقف الفلسطيني والانقسام حول آليات تحقيق العودة

رغم الإجماع الفلسطيني على التمسك بحق العودة، إلا أن هناك تباينًا في الرؤى السياسية حول كيفية تحقيقه:

1. السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير تبنت منذ أوسلو عام 1993 خيار الحل السياسي، مع المطالبة بحق العودة نظريًا، ولكن دون وضع آليات لتنفيذه فعليًا، ما جعل هذا الحق عرضة للمساومات السياسية في المفاوضات.
2. حركات المقاومة الفلسطينية مثل حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية ترفض أي تنازل عن حق العودة، وترى أن استعادة الأراضي الفلسطينية لن تتحقق إلا بالمقاومة المسلحة، وليس عبر التسويات السياسية.
3. الشتات الفلسطيني والفاعلون المستقلون يدفعون نحو استراتيجيات جديدة لإعادة إحياء حق العودة، من خلال الضغط القانوني في المحافل الدولية، واستغلال حركات المقاطعة العالمية، وتعزيز الرواية الفلسطينية في الإعلام الغربي.

هذا التباين في المواقف أدى إلى ضعف التأثير الفلسطيني في مسارات التفاوض، وجعل الاحتلال يستغل الانقسام الداخلي لفرض رؤيته الأحادية على مستقبل القضية.

ثالثًا: دور المجتمع الدولي في تكريس المأزق السياسي لحق العودة

رغم أن الأمم المتحدة أصدرت القرار 194 عام 1948، الذي ينص على حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، إلا أن القوى الدولية الكبرى لم تمارس أي ضغط حقيقي على إسرائيل لتنفيذه. بل إن الولايات المتحدة، باعتبارها الداعم الرئيسي لإسرائيل، تبنت موقفًا مناهضًا لحق العودة، واعتبرت أنه غير واقعي.

المجتمع الدولي انقسم إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية بشأن حق العودة:

1. الدول الغربية الكبرى (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا) تبنت الرؤية الإسرائيلية، واعتبرت أن حل قضية اللاجئين يجب أن يكون عبر التعويض أو التوطين، وليس العودة الفعلية.
2. الدول العربية والإسلامية التي دعمت حق العودة نظريًا، لكنها لم تبذل جهودًا فعلية لضمان تطبيقه، بل إن بعض الدول المضيفة سعت إلى تقليص وجود اللاجئين على أراضيها لتجنب التبعات السياسية والاقتصادية.
3. الحركات الحقوقية الدولية والمجتمع المدني العالمي التي تبنت دعم حق العودة عبر حملات قانونية وإعلامية، مثل حركة المقاطعة (BDS) التي تروج لحقوق الفلسطينيين في العودة وتعويضهم.

رابعًا: أثر التطبيع العربي الإسرائيلي على حق العودة

شهدت السنوات الأخيرة موجة تطبيع عربية غير مسبوقة مع إسرائيل، شملت دولًا خليجية ومغاربية، في إطار تحولات إقليمية ودولية معقدة. وقد انعكست هذه الاتفاقيات بشكل خطير على قضية اللاجئين، حيث:

- تم تهميش حق العودة تمامًا في الاتفاقيات الموقعة، ولم يُطرح حتى كمجرد بند رمزي.
- تراجعت الضغوط العربية على إسرائيل لإيجاد حل عادل لقضية اللاجئين، مع انتقال بعض الدول العربية إلى تبني خطاب أقرب إلى الرواية الإسرائيلية.
- تم تقليص الدعم المالي والسياسي للأونروا، ما أثر سلبًا على الخدمات المقدمة للاجئين، وزاد من تهميشهم دوليًا.


البعد السياسي لحق العودة الفلسطيني هو أحد أكثر الملفات تعقيدًا في الصراع العربي الإسرائيلي، حيث يتداخل مع المصالح الإسرائيلية والدولية، ويتأثر بالتحولات الإقليمية والدولية. وبينما تحاول إسرائيل وحلفاؤها دفن هذا الحق عبر التوطين والتطبيع، يبقى صمود اللاجئين الفلسطينيين وإصرارهم على العودة هو الرهان الأكبر في معركة الوجود والهوية. فحق العودة ليس مجرد مطلب قانوني، بل هو اختبار حقيقي لإرادة الشعب الفلسطيني، ومدى قدرة القضية الفلسطينية على الصمود أمام الضغوط والتسويات المشبوهة. وما دام هناك فلسطيني يحمل مفتاح بيته، ويروي للأجيال القادمة قصة قريته المهجرة، فإن هذا الحق لن يموت، وسيظل حاضرًا في معادلة الصراع حتى تحقيق العدالة التاريخية.

وختامًا، فإن حق العودة ليس شعارًا عاطفيًا أو مطلبًا تفاوضيًا، بل هو جوهر العدالة التاريخية وشرط أساسي لأي حل سياسي عادل ومستدام للقضية الفلسطينية. إن تجاهله أو تصفيته يعني ترسيخ الظلم وتعزيز الاحتلال، وهو ما لن يقبل به الفلسطينيون، الذين أثبتوا عبر عقود من النضال أن ذاكرتهم لا تُمحى، وأن مفاتيح بيوتهم ستظل رموزًا لحق لا يسقط بالتقادم. وبينما يحاول الاحتلال فرض واقع جديد، يبقى الأمل معقودًا على إرادة الشعوب الحية، وعلى استمرار الكفاح بكل أشكاله، حتى يعود اللاجئون إلى أرضهم، حاملين رايات النصر بدلًا من وثائق اللجوء.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي