الولايات المتحدة والسياسة الخارجية: من الهيمنة إلى التراجع؟ (1900-2025)

حمدي سيد محمد محمود
2025 / 2 / 5


منذ مطلع القرن العشرين، شكّلت السياسة الخارجية للولايات المتحدة ركيزة أساسية في تشكيل النظام الدولي، حيث انتقلت من سياسة العزلة إلى التدخل الفعّال، لتصبح القوة العظمى المهيمنة على القرارات العالمية. وقد تراوحت هذه السياسة بين المثالية والواقعية، بين التدخل العسكري والدبلوماسية الناعمة، وبين الأحادية والتعددية. ولكن، رغم قوتها، واجهت الولايات المتحدة تحديات كبرى أثرت على مكانتها، بدءًا من الحربين العالميتين إلى الحرب الباردة، ومن صراعات الشرق الأوسط إلى المنافسة مع الصين وروسيا، مما يجعل تقييم هذه السياسة ضرورة تاريخية وسياسية ملحّة.

مرحلة الصعود والتدخلات الكبرى (1900-1945)

مع مطلع القرن العشرين، كانت الولايات المتحدة تتبنى سياسة "مونرو" القائمة على تجنب التدخل في الشؤون الأوروبية، لكنها سرعان ما غيّرت نهجها مع الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، حيث تدخلت في عام 1917 لترجح كفة الحلفاء. وبعد الحرب، لعبت دورًا رئيسيًا في تأسيس عصبة الأمم، رغم أنها لم تنضم إليها بسبب رفض الكونغرس.

أما الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، فقد مثّلت نقطة تحول حاسمة، إذ أدى الهجوم الياباني على "بيرل هاربر" عام 1941 إلى دخولها الحرب بقوة، ما ساهم في حسمها لصالح الحلفاء. وبعد الحرب، قادت واشنطن النظام العالمي الجديد عبر تأسيس الأمم المتحدة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، مما عزز نفوذها في صياغة النظام الاقتصادي والسياسي العالمي.

الحرب الباردة وتوازن الرعب النووي (1945-1991)

دخل العالم في صراع جديد بين المعسكرين الغربي بقيادة الولايات المتحدة، والشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي. وخلال هذه الفترة، تبنّت واشنطن سياسة الاحتواء، وشاركت في حروب بالوكالة مثل الحرب الكورية (1950-1953) وحرب فيتنام (1955-1975)، كما لعبت دورًا محوريًا في إسقاط حكومات غير موالية لها، مثل حكومة مصدق في إيران (1953) وأليندي في تشيلي (1973).

السباق النووي بين القوتين العظميين بلغ ذروته خلال أزمة الصواريخ الكوبية (1962)، لكن سياسة "الردع المتبادل" حافظت على توازن هشّ. انتهت الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، مما أدى إلى ولادة "النظام العالمي الجديد"، حيث أصبحت الولايات المتحدة القوة المهيمنة بلا منافس.

أحادية القطب والصراعات الجديدة (1991-2001)

مع انهيار الاتحاد السوفيتي، فرضت واشنطن رؤيتها على النظام الدولي، عبر الترويج للديمقراطية والتدخل في الدول التي اعتبرتها "مارقة". وتجلّى ذلك في حرب الخليج (1991) ضد العراق بعد غزو الكويت، وكذلك في توسيع حلف الناتو ليشمل دولًا من أوروبا الشرقية، مما أثار استياء روسيا.

إلا أن هذه المرحلة انتهت بأحداث 11 سبتمبر 2001، التي غيّرت الأولويات الاستراتيجية للولايات المتحدة، وجعلت "الحرب على الإرهاب" محور سياساتها الخارجية.

التدخلات العسكرية والفوضى الإقليمية (2001-2016)

بعد هجمات 11 سبتمبر، قادت الولايات المتحدة تحالفًا دوليًا لغزو أفغانستان (2001) والعراق (2003)، بحجة القضاء على الإرهاب ونشر الديمقراطية. لكن هذين التدخلين تحولا إلى مستنقعين دمويين، حيث أدى الاحتلال إلى تصاعد العنف وانتشار الجماعات المسلحة، مما فاقم حالة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط.

كما شهدت هذه المرحلة الثورات العربية (2011) التي مثّلت تحديًا للسياسة الأمريكية، حيث دعمت بعض الانتفاضات، بينما غضّت الطرف عن أخرى. وبرزت روسيا كقوة مناوئة من خلال تدخلها في سوريا (2015)، مما أعاد التنافس الجيوسياسي إلى الواجهة.

التنافس مع الصين وإعادة تشكيل التحالفات (2016-2025)

مع وصول دونالد ترامب إلى الحكم (2016)، تغيّرت السياسة الأمريكية تجاه الحلفاء والخصوم، حيث انسحبت واشنطن من اتفاقيات دولية، وفرضت سياسات "أمريكا أولًا"، مما أدى إلى توتر العلاقات مع أوروبا والصين.

لكن مع جو بايدن (2021)، حاولت الولايات المتحدة استعادة دورها التقليدي، عبر تعزيز التحالفات مع أوروبا، والتصدي للصعود الصيني عبر تحالف "أوكوس"، فضلًا عن دعم أوكرانيا ضد روسيا (2022-2024). ومع استمرار الصراع في الشرق الأوسط، يبدو أن واشنطن تواجه عالمًا متعدد الأقطاب، حيث لم تعد القوة الوحيدة القادرة على فرض سياساتها كما كانت بعد 1991.

تحديات المستقبل وآفاق السياسة الخارجية الأمريكية

رغم كونها لا تزال القوة الأكبر اقتصاديًا وعسكريًا، فإن السياسة الخارجية الأمريكية تواجه تحديات متزايدة، أبرزها المنافسة مع الصين، التصعيد الروسي، تراجع النفوذ في الشرق الأوسط، وصعود قوى إقليمية جديدة. وبينما تحاول واشنطن الحفاظ على نفوذها، فإن التحولات العالمية تشير إلى نظام دولي أكثر تعقيدًا، حيث لم يعد بإمكانها فرض هيمنتها دون مقاومة.

يبقى السؤال الأهم: هل تستطيع الولايات المتحدة التكيف مع عالم متعدد الأقطاب، أم أن التحديات الحالية ستقودها إلى تراجع استراتيجي غير مسبوق؟

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي