عدمية كانط

سعود سالم
2025 / 2 / 1

272 - أركيولوجيا العدم
العدمية الثورية
20- عدمية كانط

في بداية الأمر كما رأينا، كان هجوم جاكوبي على الفلسفة والتفكير العقلي عن طريق التحرش بسمعة ليسنغ وإتهامه بالسبينوزية. أي أنه بدأ الهجوم بإعتباره سبينوزا هو الهدف الأولي الذي يجب تحطيم أسسه وقواعده الفكرية فس بداية هذه المعركة الطويلة، وذلك لأن هذا الفيلسوف هو قمة الفلسفة في تصوره، قمة فلسفة تفسير كل شيء بطريقة رياضية مثلجة وتخلو من الحياة، وهو ما سماه بالـ "الجنون العاتي للشرح والتفسير" والذي يقود في نهاية الأمر للإلحاد والقدرية.
وبعد أن أنتهى من سبينوزا، وبعد موت مندلسون وليسنغ، بدأ في الخطوة الثانية للهجوم على الفلسفة، وضحية هذه المرحلة هو كانط نفسه، ونقده للعقل المطلق. في البداية كانت العملية التخريبية مجرد تشويه وتفسير مقلوب لبعض أفكار كانط ومقولاته، ولكن بعد 1786، وبعد أن أعلن كانط دخوله ساحة المعركة والدفاع عن مواقعه ضد هجوم جاكوبي، فإن هذا الأخير كان عليه بالضرورة أن يلبس دروعه القديمة ويتحصن بخودة الفلسفة، ويعاود الهجوم بطريقة أكثر عنفا وشراسة، ولكن على أرضية فلسفة كانط ذاتها. فكان عليه أن يدرس مرة ثانية نقد العقل الخالص، وإن كانت إستراتيجيته الهجومية لم تتغير، وهي القول، كما فعل ضد سبينوزا، بأن كانط يمثل عقلانية مشوشة وغير مترابطة وتتسم صراحة بالتناقض، وأنه بذلك قد فتح بابا جديدا ودشن فلسفة جديدة تتميز بالقطيعة بين الفهم Entendement وبين العقل Raison. ذلك أن الفهم
‏Entendement مشتقة من الكلمة اللاتينية intendede، "الميل نحو"، "الانتباه"، كانت هذه الكلمة مفضلة منذ ديكارت على كلمة العقل، وهي تشير إلى القدرة على الفهم والإدراك والاستيعاب للمفهوم في مقابل الأحاسيس. وإذا كان الديكارتيون يخلطون بسهولة بين الفهم والعقل، فإن كانط يميز بينهما جذريًا، الفهم Verstand بالألمانية، هو القدرة المتعلقة بالقواعد والمفاهيم التي تسمح لنا بتنظيم البيانات الحسية من خلال تطبيق المقولات catégories عليها، من خلال توحيد المتنوع، فإن الفهم يجعل الظواهر قابلة للمعرفة العلمية. أما العقل Vernunft فهو ملكة المبادئ والأفكار التي تسمح للإنسان بالتكهن بما هو غير معطى ولكن دون الوصول إلى يقينيات ذات طبيعة علمية.
أما بالنسبة لجاكوبي، فإن هذا الشرخ بين الفهم والعقل يزداد حدة بشرخ آخر بين الفهم والحدس Intuition. ومعنى الحدس عند كانط هو التصور المعطى قبل اي تفكير، أي تمثيل مباشر موضوعي واعي لشيء ما. إنه مباشر لكونه غير مفاهيمي، ولا يتضمن أي تمثيل وسيط، وهذا ما يميزه عن التمثيل المفاهيمي. والقاعدة العامة التي يقررها كانط تنص بان كل حدوسنا هي حدوس حسية، وتنقسم إلى نوعين: حدس قبلي محض، وهو حدس المكان والزمان وكذلك الحدس المتعلق بالرياضيات، وحدس امبيريقي empircal أو العملي- التجريبي، وهو حدس الاشياء الحسية في المكان والزمان. وان الحدس الامبيريقي ليس ممكناً الا بالحدس المحض المتعلق بهذين الاخيرين. فالاساس بالتالي لكل الحدوس هو حدس المكان والزمان لا غير، وانه من دون الحدس جملة فان معرفتنا ستفتقر الى الاشياء الحقيقية وتبقى فارغة تماماً. ولذلك فإن كانط يرى ضرورة هذه العلاقة القائمة بين العقل والحدس والفهم. فالحدس بدون مقولة، يصبح أعمى، والمقولة بون حدس تتحول إلى قوقعة فارغة، أما العقل بدون مقولات فإنه مجرد حلم بالواقع. لأنه في هذه الحالة، كل الأفكار والمفاهيم العقلية ستفقد كل قوة وكل إمكانية إبداعية، وستنحصر في تعيين ما تعطيه للتفكير فيه "سلبيا". وهذه التفرقة والتمييز الذي أقامه كانط، كان هدفه الأولي هو نقد المثالية الديكارتية والمثالية المتعالية التراسندنتالية. وأفرغ بالتالي كل من الحدس والفهم والعقل، الواحد منهما بالآخر، واًصبح أي منهم غير قادر على الوصول إلى أي معرفة بدون اللجوء إلى الآخر. وتصبح الكائنات ذاتها مجرد ظواهر شبحية.
هذه القطيعة المزدوجة التي دشنها كانط، كما يعتقد جاكوبي، أدخلت الفلسفة في عهد مظلم حسب رأيه، وأصبحت العقلانية تعاني توترا لا يحتمل بين حساسية أفرغت من كل محتواها المادي والجوهري وبين عقل أعمى يفتقر للحدس. وقفز جاكوبي مغمض العينين وسط هذا الفراغ التصوري، مدركا أن "فهم" كانط، المشلول والغير قادر على الإحساس إلا بواسطة الحدس، وغير قادر على المعرفة إلا بواسطة العقل، يقود حتما إلى ممر مسدود وإلى فلسفة يسميها "لا هذا ولا ذاك"، أي لا إحساس ولا عقل ولا حدس. وهذا الفراغ وهذه الهوة العميقة هو ما سماه جاكوبي بالـ "عدمية".

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي