![]() |
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
![]() |
خيارات وادوات |
سعود سالم
2025 / 1 / 24
271 - أركيولوجيا العدم
العدمية الثورية
19 - الهجوم على كانط
مندلسون، أدرك خطورة إتهام جاكوبي لصديقه ليسنغ بتبنيه لفكر سبينوزا ونظرته لله والطبيعة، ليس فقط بخصوص ليسنغ نفسه، وإنما بإعتبار هذا الإتهام هو عريضة ضد الفلسفة عموما. جاكوبي أراد بهذا الإتهام أن يشير صراحة إلى أن الفلسفة فشلت في مشروعها المعرفي، وغير قادرة على إثبات وجود الله وتأسيس الدين، وغير قادرة في نفس الوقت على وضع أسس متينة للأخلاق. ويعتبر فلسفة سبينوزا، فلسفة مزيفة رغم أنها في الظاهر تبدو عقلية ومتماسكة، ولكنها في حقيقة الأمر هي فلسفة إرتيابية وشكية مقنعة، بل هي نوع من الإلحاد و"العدمية" المتسترة وراء شرعية العقل.
وقد أستمرت معركة المراسلات والمطبوعات بين جاكوبي ومندلسون لفترة طويلة، حتى وفاة مندلسون سنة ١٧٨٦، غير أن جاكوبي القاسي والمثابر، واصل مشروعه التدميري دون أن يأبه لغياب مندلسون أو ليسنغ، فقد كانا بالنسبة له الذريعة لبداية حملته العاتية، أو الحطب الذي ساعده في إشعال الحريق، وكان ضروريا بطبيعة الحال أن يدمرهما الإعصار الذي تسبب في أحتدام النقاش في الساحة الفكرية والذي شارك فيه أغلب مثقفي ألمانيا ذلك الوقت. ولكن جاكوبي كان يتقن سياسة النقاش والجدال العنيف، وبدأ في مناوشة كانط الذي ظل صامتا طوال هذا الوقت وبعيدا عن هذه الضوضاء الفكريه، رغم أن مندلسون كان قد أستنجد به قبل وفاته لكي يساعده في الرد على جاكوبي، الذي كان يريد بدوره إستدراج كانط ليجبره على الدخول في حلبة النقاش. ولكن كانط واصل صمته ورفض التدخل في هذه المعركة التي لم تكن تهمه. غير أن جاكوبي لم ييأس من هذا الترفع الكانطي، بل أستغله كفرصة للمزايدة ورفع حدة المناوشة، فبدأ في نشر مجموعة من المراسلات والمطبوعات يفسر فيها على هواه مقولات كتاب "نقد العقل الخالص" الذي أصدر كانط طبعته الثانية عام ١٧٨٧. وحاول كانط بطريقة غير مباشرة، عن طريق بعض أصدقائه أن يقنع جاكوبي بترك كتابه وشأنه، غير أن ذلك كان بدون نتيجة تذكر.
واصل جاكوبي تفسيراته المريبة ويتهم كانط بأنه في كتابه هذا لا يقدر قيمة العقل وقدرته ولا يضعه في مرتبة عالية في الحقيقة، وإنما يعترف ويقدم شهادة على ضعف هذا العقل وعجزه، وذلك في صالح فكرة الإيمان. ويواصل تغيير مقولات كانط وتشويه تصوراته وتفسير مفاهيمه الأساسية بطريقة تبتعد كثيرا عن الروح العلمية والموضوعية، فيذهب إلى أنه بإعتبار كلمة "عقل" ترجع في أصولها إلى فكرة "السمع"، فإن العقل له وجود مادي وعضوي مثله مثل أي حاسة من الحواس، كالسمع والبصر والشم أو اللمس، ووظيفته هي إدراك ما وراء الواقع، أي ما لا تدركه الحواس المتعارف عليها والتي تقتصر وظيفتها على إدراك الواقع الحقيقي المرئي والملموس. ويذهب إلى أن "الإيمان" والإعتقاد فإنه يعني بكل بساطة التقبل والموافقة والقبول، والذي لا يأتي عن طريق العقل، ولا عن طريق الحواس الأخرى، ولا عن طريق البحث وتقصي الحقائق المادية والجري وراء الأدلة والإثباتات والبراهين. الإيمان هو إظهار للحقيقة وكشف وحدس أولي وجذري للكينونة. وبهذا المعنى، يبدو الإيمان كصورة متفوقة للمعرفة، وترتقي إلى مستوى أرفع من المعرفة العقلية أو المعرفة النابعة من الإدراك الحسي.
يتبع
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |