![]() |
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
![]() |
خيارات وادوات |
الطاهر المعز
2025 / 1 / 21
تتميز غزة بكثافة عدد السكان في كل كيلومتر مربع، حيث لا تزيد مساحتها عن 365 كيلومترًا مربعًا فقط ويسكنها 2,3 مليون فلسطيني، وأدّى العدوان الصهيوني، طيلة حوالي 16 شهرًا، إلى اغتيال عشرات الآلاف – قَدّرت المجلة الطّبّيّة البريطانية "لانسيت" عددهم بنحو مائة ألف بين قتيل ومفقود – وإصابة وتشريد مئات الآلاف، وتدمير المباني والبُنْيَة التّحتية وتجريف الأراضي الزراعية، ولم يسلم التراث الحضاري والمعماري والثقافي من التّدمير المُتَعَمّد، وهو إرث لا يمكن تعويضه، وفق منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم والتربية ( يونسكو) التي وثَّقت التراث الأثري والثقافي الذي يعكس وجود العديد من الحضارات التي تواجدت في غزة منذ آلاف السّنين، كما وثّقت منظمة اليونسكو الأضرار – التي لا يمكن إصلاحها - والتي تعرضت لها المساجد والكنائس وغيرها من المباني التاريخية والمواقع التُّراثية ذات القيمة التاريخية التي لم يكن تصنيفها على قائمة التراث العالمي لليونسكو كافياً لحمايتها، ومعظمها لا يمكن ترميمه أبداً، ومن بينها التراث المعماري والتاريخي الذي يعود إلى العصور القديمة والآشورية، ثم الهلنستية والرومانية والإسلامية والعثمانية...
يُخَيَّلُ لمن يُتابع وسائل الإعلام السّائد إن قطاع غزة منطقة بلا تاريخ وبلا نشاط اقتصادي واجتماعي وثقافي، رغم امتداد تاريخها إلى عدة آلاف من السنين، ووجود شواهد على هذا التّاريخ العريق الذي وثّقته منظمة الأمم المتحدة للعلوم والتربية والثقافية (يونسكو) كما وَثَّقَتْ ما تم تدميره في محاولة من الكيان الصهيوني لإلغاء هذه الشَّوَاهد التاريخية ولترسيخ الفَرَضية الصّهيونية: إن فلسطين "أرض بلا شعب"، وهي إرادة سياسية تهدف محو الذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني ومن ضمنه سكان غزة، أو ما يمكن أن نطلق عليها مَذْبَحَة أو إبادة ثقافية ومحاولة المَحْو المَنْهَجِي لهويّة ولذاكرة الشعب الفلسطيني بالإضافة إلى تدمير مُقوّمات الحياة: البنية التحتية الأساسية كاطرقات ومؤسسات التّعليم ودور العبادة الإسلامية والمسيحية والمُستشفيات وخزّانات المياه وما إلى ذلك...
تندرج الرغبة في القضاء على الثقافة والهوية ضمن خطة سياسية استعمارية تتمثل في طرد أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين من قطاع غزة، وخصوصًا الفلاحين – كما يحدث في الضّفة الغربية، وكما حدث في الجليل، ويحدث في النّقب - وإعادة إنشاء المستوطنات التي فككتها الحكومة الصّهيونية سنة 2005، وترافق ذلك التّفكيك بحصار مطبق...
تتعاون منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة ( يونسكو) في فلسطين مع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أنروا) لتوفير المساعدات الفنية والتعليمية والثقافية للاجئين من سكان الضفة الغربية وغزة، وَوثّقت المنظمة الدّمار الذي أصاب التراث الثَّرِي ومواقع غزّة، كما وثّقت عدم احترام الكيان الصهيوني لاتفاقية لاهاي لحماية التراث زمن النزاعات المُسلّحة ( 1954 ) وأظْهَرَ التّقْيِيم الأولي للأضرار التي لحقت بالممتلكات الثقافية باستخدام صور الأقمار الصناعية والتحليلات التي يقدمها مركز الأقمار الصّناعية التّابع للأمم المتحدة ( Unosat)، بين تشرين الأول/أكتوبر 2023 وتشرين الأول/أكتوبر 2024، أضْرارًا لحقت بـ 75 موقعًا: 48 مبنى تاريخيًا أو فنيًا، و10 مواقع دينية، و7 مواقع أثرية، و6 معالم، و3 مستودعات للممتلكات الثقافية، ومتحف واحد، وصرّح مُنَسِّق مشروع تاريخ فلسطين وتراثها إن الكيان الصّهيوني "استهدفت عَمْدًاً كبيراً من المواقع الأثرية، ومن أبرزها موقع تل السكن جنوب مدينة غزة، ويعود إلى العصر البرونزي المبكر (بين 3200 و2300 قبل الميلاد)، وتل العجول، من العصر البرونزي الأوسط والمتأخر (2300-500 قبل الميلاد)، وتعرضت مواقع في تل المنطار وأضرحة الشيخ علي المنطار للتدمير، فيما تضرّر حي الشيخ رضوان شمال غرب مدينة غزة، وموقع البلاخية (ميناء غزة القديم، أنثيدون، الذي بني خلال الفترة اليونانية الرومانية وظل نشطًا حتى القرن الثاني عشر) وألحقت نيران المدفعية أضراراً جسيمة بكنيسة تعود للعصر البيزنطي في جباليا، مع احتمال فقدان فسيفسائها الغنية... كما تعرض التراث - الذي شمل المباني التاريخية والمساجد والمدارس والمنازل الخاصة والأضرحة والنوافير العامة - للتدمير المُتَعَمّد في مدن غزة وبيت حانون ودير البلح وخان يونس ورفح، وهُدِمَ مبنى المسجد العمري، الذي تبلغ مساحته 4100 متر مربع، بالكامل، كما تعرضت كنيسة القديس بورفيري في حي الزيتون بغزة لتدمير شبه كامل، كما تم قصف المسجد الكبير في غزة، وهو أقدم مسجد في فلسطين"، ولم يَكُنْ المسجد الكبير مكانًا للعبادة فحسب، بل هو أيضًا رمز للأنماط المعمارية المختلفة في غزة، ولحقت أضرار جسيمة بمتحف قصر الباشا، وهو قلعة مملوكية من القرن الثالث عشر، ومقر إقامة باشوات غزة خلال فترة الإحتلال العثماني وتم ترميم القَلْعَة وتحويلها إلى متحف سنة 2005، بتمويل من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ( UNDP )، كما استهدف القصف الصهيوني دير القديس هيلاريون ( تل أم عامر) بأكمله الذي تم إدراجه ( خلال شهر تموز/يوليو 2024 ) على القائمة الدولية للممتلكات الثقافية المحمية المعززة لليونسكو، لأنه "أحد أقدم المواقع في الشرق الأوسط، أسسه القديس هيلاريون واستضاف أول مجتمع رهباني في الأرض المقدسة، ويقع على مفترق طرق التجارة الرئيسية بين آسيا وأفريقيا، ويُشكل مركزًا للتبادلات الدينية والثقافية والاقتصادية، مما يوضح ازدهار المواقع الرهبانية الصحراوية في العصر البيزنطي"، وفق وثيقة اليونسكو، كما قامت مجموعة مكونة من حوالي عشرين أكاديميًا بنشر "قائمة جرد للتراث المدمر" في غزة على الإنترنت، خلال شهر تشرين الأول/اكتوبر 2024، ويتم تحديث هذا الموقع باستمرار ليقدم خريطة للدمار وقائمة بالعشرات من المعالم الأثرية المتضررة وبيانًا توضيحيًا يوضح بعضًا منها، وتوفر الروابط أيضًا إمكانية الوصول إلى قواعد البيانات ذات الصلة لتقييم مدى هذه الكارثة، وهكذا تم رَصْدُ الأضرار الفادحة التي لحقت كنيسة "القديس بورفير"، خلال قَصْف صهيوني يوم 19 تشرين الأول/اكتوبر 2023، وسَبَقَ أن تَعرّضت نفس الكنيسة للقصف خلال عدوان صيف سنة 2014، ويعود تاريخ هذه الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية إلى القرن الخامس، وتم ترميمها وتَوْسيعها خلال القرن الثاني عشر.
لم تُشر السلطات البريطانية إلى تدمير المقابر العسكرية في غزة ودير البلح التي تحتوي على آلاف قبور جنود الكومنولث الذين سقطوا خلال الحرب العالمية الأولى، بين سنتَيْ 1917 و1918 أثناء الغزو البريطاني لفلسطين، كما دمّر القصف الصهيوني، كلّيًّا أو جُزْئِيًّا مقر بلدية غزة الذي أقيم سنة 1930 وسينما سمير ونصر، التي افتتحت منتصف القرن العشرين، وذكر مركز الأقمار الصناعية التابع للأمم المتحدة (يونوسات ) أن العدوان الصهيوني دَمَّرَ، خلال عام واحد، حوالي 32 ألف مبْنى وتَعرض 17 ألف مبنى لأضرار بالغة...
حاول بعض المُثقفين الفلسطينيين حماية جزء من تراث غزة بالتعاون مع صندوق الطوارئ التابع للتحالف الدولي لحماية التراث في مناطق الصراع (Aliph)، بسويسرا، من خلال نَقْلِ بعض التحف الفنية، وتدريب السّكّان على الحفاظ على التراث، رغم القصف اليومي والدّمار...
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |