صلاح الدين وناثان الحكيم

سعود سالم
2025 / 1 / 12

268 - أركيولوجيا العدم
العدمية الثورية
16 - ناثان الحكيم
تخلى جوتهولد إفرايم ليسينج، الذي تحلى بروح "التنوير" وأفكار التسامح والفكر الحر، عن مسيرته الجامعية والأكاديمية، واختار نقل نقاش الأفكار والمفاهيم إلى خشبة المسرح رغم رقابة فريديريك العظيم، والجدل الديني الخطير بين أنصار الربوبية الإنجليزية والمدافعين عن التقليد اللاهوتي، بين التجربة الدينية الداخلية والدوغمائية العقائدية الجديدة التي انغلقت فيها روح الإصلاح. ويقدم ليسنج مع ناثان الحكيم، درسًا في التسامح الديني والإنفتاح الفكري. وبداية المسرحية مستوحاة مباشرة من القصة الثالثة لرواية جيوفاني بوكاتشو التي ذكرناها سابقا، حيث يتغير إسم اليهودي ميلكياديس ليصبح ناثان الحكيم.
تجري الأحداث في القدس في زمن الحملة الصليبية الثالثة أثناء الهدنة. صلاح الدين لديه متاعب مالية وكان قد أقترض في الماضي مبلغا من ناثان، وليس له إمكانية الوفاء بدينه ويحتاج إلى قروض أخرى، ويستدعي صلاح الدين ناثان بحجة اختبار حكمته. يسأله عما يعتقد أنه الدين الحقيقي، على أمل أن يسمح له ولاء ناثان المعلن لليهودية بإجابة تخالف قوانين الإسلام تسمح لصلاح الدين بمصادرة ممتلكاته وإلغاء الدّيْن. لكن ناثان، الحكيم يقدم له الجواب على شكل حكاية رمزية، مثل الخاتم أو قصة الخواتم الثلاثة التي وردت في الديكا-ميرون. وهي جكاية رجل غني يمتلك خاتمًا لديه القدرة على إثارة الحب والتقدير لمن يلبسه، وقد ورثه عن أجداده وعليه بدوره أن يتركه لابنه المفضل، ويطلب منه أن يفعل الشيء نفسه. غير أن مشكلة هذا الأب أنه يحب أطفاله الثلاثة بالتساوي وقد وعد كل منهم بأن يكون وريثه الوحيد. وعندما رأى نفسه يحتضر، طلب صناعة خاتمين جديدين صنعهما له صائغ، وأعطى خاتمًا لكل من أبنائه سرا. وعندما مات الأب، كل من الأبناء الثلاثة مقتنع بحيازة الخاتم الحقيقي وبحقه في تولي سلطة الأب وتمثيله. لم يجدوا أي حل وسط، لأن كل منهم لديه الحقيقة من فم والده وبالتالي لا يمكنه التشكيك فيها دون اتهام هذا الأب بالكذب عليه، يطلب الإخوة من القاضي التحكيم. ويشير القاضي إلى أن الخاتم يتمتع بسمعة قدرته على إثارة محبة الله والناس، وأنه علينا فقط أن ننتظر لنرى أي الخواتم الثلاث أكثر فعالية، إلا إذا كان الأب قد صنع ثلاث خواتم جديدة نتيجة ضياع الخاتم الأصلي أو لعدم وجود خاتم أصلي إطلاقا، ولذلك يدعو الإخوة إلى العمل من أجل المستقبل من خلال السعي لجعل الأجيال القادمة فاضلة قدر الإمكان. وبذلك يجعل إمكانية الحصول على هذا الخاتم السحري تعتمد على ما يقوم به الشخص من أعمال في حياته تجاه نفسه وتجاه الناس والمجتمع. في هذا المثل يمكننا أن نرى الأب كممثل لله، والأبناء الثلاثة هم الديانات السماوية. وكما يحب الأب أبناءه الثلاثة بالتساوي، فإن الله أيضًا يحب الأديان الثلاثة. وفي فرضية أن الخاتم الحقيقي قد ضاع وأن الأب قد طلب من الصائغ ثلاث خواتم جديدة، يظهر الأب كممثل للدين الأصلي أو المثالي المفقود الآن، والخواتم كثلاثة أديان تاريخية تحاول الإقتراب من الحقيقة الأولى. ومن هذا المنظور الأخير، يمثل القاضي الأنبياء والرسل أو الوسطاء الذين يدعون الناس بالاهتمام بتعليم أبنائهم الحق والعدالة والمساواة.
غير أن مسرحية ناثان الحكيم لا تقتصر على حكاية الخاتم، فقد علم ناثان عند عودته من رحلة عمل أن ابنته بالتبني ريشا أنقذها أحد فرسان جماعة الهيكل من الحريق الذي كاد يؤدي بحياتها. هذا المسيحي هو نفسه قد نجا من الموت، فهو الناجي الوحيد من مجموعة فرسان الحملة الذين ثم أسرهم، ثم تم إعدامهم جميعا وهم تسعة عشر فارسًا على يد جنود صلاح الدين، ما عدا هذا الفارس الذي أستحق العفو من السلطان، متأثراً بشبهه بأخيه الراحل المسمى "أسد" الذي اختفى في ظروف غامضة. غير أن الفارس المسيحي يرفض شكر ناثان، متعللا بأنه قام فقط بواجبه بإنقاذ الفتاة. ومع ذلك، ولأن الحب أقوى من التحيزات الدينية، وقع الفارس المسيحي في حب ريشا ويرغب في الزواج منها. يبدو ناثان متحفظًا جدًا بشأن مشروع الزواج هذا. وفي نفس الوقت علم الفارس من الخادمة المسيحية داجا أن ريشا هي ابنة ناثان بالتبني وأن والديها كانا مسيحيين، فيستشير بطريرك القدس، وعلى الرغم من أن الفارس عرض المشكلة بطريقة افتراضية تمامًا، إلا أن البطريرك طالب بصوت عالٍ بإحضار "هذا اليهودي"، المذنب بتربية امرأة مسيحية على الدين الباطل، وإحضاره إلى المحكمة. لكن االيهودي يقدم دليلاً على أن ريشا، التي نشأت على الدين اليهودي، هي في الواقع أخت الفارس المسيحي وأن كلاهما أبناء أسد، شقيق صلاح الدين الذي اعتنق المسيحية. بمجرد الكشف عن السر، سوف تنسى ريشا وفارس الهيكل وناثان وصلاح الدين الفجوة التي حفرها الدين بينهم حتى ذلك الحين.
وهكذا فإن المسرحية لا توضح العلاقة الوثيقة بين الديانات الثلاث فحسب، بل توضح حقيقة أن جميع البشر إخوة وأن الحقيقة موجودة بالفعل في هذه الروابط الأخوية التي توحد الناس، في حين أنها غائبة عن مشاجراتهم العقائدية.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي