تأمل سريع في مرور الزمن ودروس الحياة

أكرم شلغين
2025 / 1 / 10

إنها توضح أن الحياة رحلة محكومة بالحتمية الزمنية التي تفرض علينا الانتقال من مرحلة إلى أخرى ولهذا أعود إليها باستمرار. وهي لتشارلز ديكنز "حكاية ولد" و تتناول هذه الرحلة البشرية بمجازية تجمع بين البساطة والفلسفة. في جوهرها، تسلط القصة الضوء على مرور الزمن والحتمية التي ترافقه، لكنها في الوقت ذاته تدعونا للاحتفاء بكل مرحلة من مراحل حياتنا والاستفادة منها. هذه الثيمة (المفهوم الأساسي، أو الفكرة الرئيسية) ليست محصورة بالأدب وحده؛ بل هي انعكاس لمقاربات ثقافية ومعرفية شتى تتقاطع في الحكمة والوعي الإنساني.
حاز مفهوم الزمن على اهتمام الفلاسفة منذ القدم، بدءا من أفلاطون الذي وصفه في "طيماوس" بأنه صورة متحركة للأبدية، إلى هايدغر الذي رأى فيه بُعدا للوجود الإنساني. هذه الحتمية التي تجعلنا نعيش ضمن إطارات زمنية تحكم أفعالنا واختياراتنا لا تُناقش من باب القيود فقط، بل من باب الفرص التي تصقل كياننا. في هذا السياق، يظهر الحنين كحالة مزدوجة؛ إذ إنه يعيدنا إلى الماضي بشغف، لكنه يدفعنا أيضا لمراجعة قراراتنا واستخلاص العبر من التجارب.
لا يُمكن أن نناقش الحنين من دون العودة إلى الأدب الذي يجسده في صور شتى. في "البحث عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست، يعتبر استحضار الماضي رحلة شعورية تحمل في طياتها محاولات لفهم الذات والعالم. هذا التوجه يتلاقى مع موضوع قصة ديكنز المذكورة أعلاه، حيث يغدو استذكار مراحل الحياة وسيلة لفهم جماليات كل مرحلة، رغم صعوبة بعضها. هنا يظهر دور الأدب بوصفه أداة ثقافية تجمع بين الشخصي والعام، مُضيئة الطابع الإنساني المشترك للحياة.
وفي حين ينسب لجورج برنارد شو أن "الشباب يضيع على الشباب" بتضمين أننا ندرك قيمة الشباب وإمكاناته غالبا بعد مضي السنين إلا أنه يبدو مواسيا حين يربط السنين بالحكمة حين يكتب عن أن مرور السنين أمر حتمي يجلب التقدم في العمر للجميع، لكنه يمنح الحكمة لمن يسعى إلى التأمل والتعلم من تجاربه.
في علم الاجتماع، يمكن فهم فكرة مرور الزمن والحنين كجزء من بناء الهوية الإنسانية. يرى بيير بورديو أن الزمن ليس مجرد تسلسل كرونولوجي (تعاقبي)، بل بنية اجتماعية تنطوي على قيم ومعايير تحدد أفعال الأفراد وفق مراحل حياتهم. على سبيل المثال، يُنتظر من الشباب الطموح والإبداع، بينما تُطلب الحكمة والنضوج من الكبار. في الثقافة اليابانية، نجد مفهوم "وابي سابي"، الذي يحتفي بجمال الفقد وعدم الكمال، وهو منظور يُظهر كيف يمكن أن تكون الحتمية الزمنية مصدرا للإلهام بدلا من القيود.
من الفلسفة إلى الأدب وعلم الاجتماع، يبدو أن هناك إجماعا على أن الحكمة هي الثمرة الأهم لتجربة مرور الزمن. تظهر هذه الفكرة بشكل جلي في نصوص مثل "جمهورية" أفلاطون، حيث تُمنح القيادة للفلاسفة لأنهم يجمعون بين التجربة والرؤية المستقبلية. على المستوى الشعبي، نجد الحكمة في أمثال الأمم المختلفة التي تؤكد على أهمية التروي والتعلم من الماضي، مثل المثل العربي: "الدهر يومان: يوم لك ويوم عليك".
إن فلسفة الحياة تقوم على تقبل الحتمية، لكن هذا لا يعني الاستسلام لها. على العكس، يشير جان بول سارتر إلى أن الحتمية الزمنية لا تلغي حرية الإنسان، بل تعززها من خلال إدراك قيمتها. بالتالي، يمكننا الاحتفاء بمراحل الحياة باعتبارها فصولا متكاملة تشكل كتابا غنيا بالمعرفة والتجارب.
بعبارة مختصرة، تذكرنا قصة "حكاية ولد" بأن الحياة ليست فقط سلسلة من الأحداث، بل لوحة فسيفسائية تتداخل فيها المعاني والتجارب. مثلما يعلّمنا الأدب والفلسفة، فإن مرور الزمن ليس مجرد تناقص في الأيام، بل زيادة في الحكمة والقدرة على فهم الذات والعالم. علينا أن نعيش كل لحظة بوعي، مستلهمين من الماضي ومتطلعين إلى المستقبل، ومتقبلين حتمية الزمن كجزء من جمال الحياة وتعقيداتها.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي