الدين وعصر التنوير

سعود سالم
2025 / 1 / 6

266 - أركيولوجيا العدم
العدمية الثورية
14 - مندلسون وليسنغ

موسيس مندلسون Moses Mendelssohn1786 - 1729 كان فيلسوفًا وعالم لاهوت يهوديًا ألمانيًا، دراساته وأفكاره عن التراث اليهودي والدين والهوية اليهودية تعتبر عنصرًا أساسيًا في تطوير الهاسكالاه Haskalah، أو "التنوير اليهودي" في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وُلد مندلسون لعائلة يهودية فقيرة وكان مقدرًا له في الأصل أن يدرس اللاهوت ويصبح حاخاميًا، وبدلا من ذلك أتجه لدراسة الفكر والأدب الألماني. ومن خلال كتاباته عن الفلسفة والدين، أصبح يُنظر إليه على أنه شخصية ثقافية رائدة في عصره من قبل كل من المثقفين المسيحيين واليهود في أوروبا الناطقة بالألمانية وخارجها. وكان ينتمي للطبقة الثرية، فقد شكلت إستثماراته في صناعة النسيج في برلين أساس ثروة عائلته الكبيرة والتي أعطت العديد من الفنانين والعلماء.
أما صديقه، غوتهولد إفرايم ليسينغ Gotthold Lessing فقد كان أديبا ومفكرا أهتم بالمسرح والإشكاليات الفنية من النقد ونظرية علم الجمال. فيلسوف، وكاتب مسرحي، وناقد فني ألماني 1729- 1781 وأحد أهم ممثلي عصر التنوير، مسرحياته وكتاباته النظرية أثرت بصورة كبيرة على تطور الأدب الألماني. ولد ليسينغ في كامينز Kamenz وهي بلدة صغيرة في ولاية سكسونيا، والده كان رجل دين وكاتب، درس في مدرسة لاتينية في كمينز ثم في مدرسة ساكسونيا الفيدرالية ثم درس اللاهوت والطب في لايبزيغ. عاش في لايبزغ وبرلين وعمل كناقد ومحرر للجريدة الفوسية (Vossische Zeitung). في 1752 حصل على درجة الماجستير في فيتنبرغ. وعمل لمدة ثلاث سنوات كمستشار في المسرح الألماني الوطني في مدينة هامبورغ حيث التقى إيفا كونغ Eva König التي أصبحت زوجته لاحقا. وكان صديقا قريبا من مندلسون، مما جلب له العديد من المشاكل والشبهات بخصوص ميله لليهود وإبتعاده عن الهوية الألمانية، خاصة بعد مسرحيته اليهود، ومسرحية ناثان الحكيم - Nathan the Wise, 1779 ..
في كتاباته الدينية والفلسفية دافع عن حق "المؤمن المسيحي" في حرية الفكر، وجادل ضد الاعتقاد بالوحي واتقد التمسك بالتفسير الحرفي للإنجيل كما تدعو التعاليم الأرثوذكسية السائدة. حدد ليسينغ مفهوما دينيا سماه «دليل القوة»: كيف يمكن للمعجزات أن تظل مستخدمة كأساس للمسيحية ونحن لا نمتلك أية أدلة عقلية على المعجزات؟ وقال بأن الحوادث التاريخية الغير مؤكدة ومحط الشك لا يمكن أن تستخدم لإثبات الحقائق الميتافيزيقية كوجود الله أو معجزات المسيح. وهذا ما سمي لاحقًا باسم خندق ليسينغ Lessing s Ditch. خندق ليسينج هو مصطلح يستخدم لوصف وجهة نظر ليسينج التي تؤكد أن هناك هوة عميقة بين التاريخ وما يسمى بالحقيقة الأبدية لا يمكن عبوره. ونتيجة لذلك، فإن الوحي في التاريخ غير ممكن، لأن الحقيقة التاريخية لمحتوى النصوص الدينية لا يمكن إثباتها. وعلاوة على ذلك، فقد رسم تمييزًا بين الحقائق العرضية للتاريخ وحقائق العقل الضرورية. وقد نشأت هذه النظرة من اقتناعه بأن العقلانية يمكن أن تكون الوسيلة الوحيدة المقبولة عالميًا لفهم العالم، وبالتالي كان مقتنعًا بأن الكتاب المقدس لا يمكن الوثوق به كمصدر لوصف أي حقيقة، ناهيك عن حقيقة الله. ويقول بهذا الصدد «هذا إذن هو الخندق العظيم القبيح الذي لا يمكنني عبوره، مهما حاولت وكيفما حاولت أن أقفز تلك القفزة بكل إصراري».
تمثلت أفكار التنوير التي اعتنقها ليسينغ بشدة في «مثال الإنسانية» الذي اقترحه، والذي يدعو لنسبية الدين وعلاقته بقدرة الفرد على التفكير المنطقي. وتعتبر مسرحيتة "ناثان الحكيم" أول مثال على «أدب الإنسانية» الألماني. وكداعية لفلسفة التنوير، آمن ليسينغ «بمسيحية المنطق العقلاني»، والتي توجه نفسها بروح الدين، بمعنى أن المنطق الإنساني المنطلق من النقد والاعتراض والحوار المستمر سيتطور حتميا، حتى بدون الوحي المقدس ليصل إلى النتائج العقلية والمنطقية. وقد أشتغل طوال حياته الفكرية على الإهتمام بفكرة الحرية، حرية المسرح ذاته ضد سيطرة النموذج الفرنسي الكلاسيكي، ثم حرية الدين من الدوغماتية الكنسية واللاهوت المتوارث، ثم الحرية السياسية حيث وقف مع تحرير الطبقة الوسطى من سلطة النبلاء.
اعتمد ليسينغ على مهاراته وثقافته الواسعة في الكتابة المسرحية ليكتب ما يعد دون شك أكثر مسرحياته تأثيرًا، مسرحية ناثان الحكيم . في هذه المسرحية، يعالج ليسينغ العلاقات المتوترة بين الأديان اليهودية والإسلام والمسيحية عن طريق جعل إحدى الشخصيات المنتمية للإسلام، وهو صلاح الدين، تسأل ناثان، الشخصية الأولى في المسرحية عن الدين الأكثر أصالة والأكثر قربا من الحقيقة. يتجنب ناثان السؤال عن طريق سرد حكاية رمزية تسمى la parabole de l’anneau أو حكاية الثلاث خواتم، ما يلمح لفكرة عدم وجود دين محدد هو «الدين الصحيح»، وأن الأديان السماوية عليها أن تثبت صحتها من خلال صلاحيتها لجعل البشر يحبون بعضهم البعض ويعيشون في سلام ..
ويعتبر مثل الخاتم أحد النصوص الأساسية لفلسفة التنوير وأشد تعبير مؤثر عن فكرة التسامح. والمستوحات في حقيقة الأمر من كتاب " الديكاميرون" للكاتب الإيطالي Giovanni Boccaccio المؤرخ بين 1349-1351 والذي ترجمه صالح علماني للعربية سنة 2006، حيث يتم تقديم هذا المثل في شكل حكاية (اليوم الأول، القصة الثالثة).
لقد كان لكتابات موسيس مندلسون وجوتهولد ليسينج تأثير كبير في تعليم مدى ضرورة إمكانية التسامح فيما يتعلق بالنظام الاجتماعي. وتؤكد أعمالهما على فكرة أنه في عالم مليء بالارتباك والكراهية العنصرية التي لا تقبل الشك والعنف المتفشي والتعصب الديني والناتج غالبا عن عدم معرفة الآخر لإنعدام الحوار، لا تزال هناك فرص لتحقيق التسامح والحياة مع الآخر مهما كانت نظرته للعالم وللكون. وقد حاول ليسينج ومندلسون حل هذه المشاكل باستخدام القيم الفكرية والعقلانية للتنوير. لقد أدت العقائدية الدينية المقترنة بالإقطاع إلى قمع مجموعات دينية أخرى مثل اليهود والمسلمين. والطريقة الوحيدة لإحداث دفعة إيجابية للدين هي تحويله وفقًا لغرضه الأولي المتمثل في الإدراك الشخصي لله، وحصر دور المقدس في هذه العلاقة الفردية المباشرة دون أن تجتاح المجال الإجتماعي العام.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي