![]() |
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
![]() |
خيارات وادوات |
سعود سالم
2025 / 1 / 3
265 - أركيولوجيا العدم
العدمية الثورية
13 - جاكوبي وتحطيم العقل الفلسفي
كان لقاء جاكوبي مع جوته في عام 1774 قد حفز جهود جاكوبي التالية وشجعه على كتابة رواياته، "أوراق إدوارد أولويلز" Allwills Papiere - 1775، و"فولديمار. Woldemar" 1777. وقد نالت روايته الأولى نجاحا نسبيا، حيث تمكن جاكوبي من طرح العديد من القضايا الفلسفية التي كانت مجال إهتمامه، حيث ركز في هذا العمل على وصف "الحياة" وإعتبارها قوة جارفة بلا حدود، وأيضا بدون أساس أو ضرورة، ولذلك فهي تستعصي على كل تنظير فكري أو عقلي. وربما هي المرة الأولى التي يلجأ فيها فيلسوف إلى طرح رؤيته الفلسفية للعالم في صيغة روائية في شكل مجموعة من الرسائل. ويبدو أن السبب في إختيار هذا الشكل للسرد الروائي، يرجع إلى رغبته في أن يحقق ويثبت قصور الفلسفة، أو العقل عن الوصول إلى الحقائق الإنسانية الأولية والمباشرة، وربما كسبب ثان أنه أراد أن يثبت ويحقق عمليا القطيعة وتجاوز فلسفة التنوير بالذات، مع الإستمرار في ممارسة البحث الفلسفي بطرق جديدة وغير أكاديمية. ويشبه جاكوبي العقل في هذه الرواية بتيريزياس الأعمى Τειρεσίας الذي أفقدته بصره الإلهة أثينا التي رآها تستحم عارية في النهر بإعتبار ذلك إنتهاك لعفتها المطلقة. وقد رفضت الإلهة الصفح عن هذا الإنتهاك وإرجاع البصر لتيريزياس الشاب في ذلك الوقت، لكنها وافقت على تخفيف عقوبتها، «وطهرت أذنيه، فمكنه ذلك من فهم لغة الطيور بشكل كامل؛ ثم أعطته عصا من خشب القرانيا Cornouiller، كان يمشي بها مثل الناظرين” (أبولودوروس الثالث، 6، 7). كما منحته أثينا حياة أطول من حياة البشر العاديين والقدرة على الاحتفاظ بمواهبه في العالم السفلي وقدرته على أن يتحول إلى إمرأة.
وتاه تيريزياس في شوارع طيبة وضواحيها متجولا تقوده عصاه وإبنته التي تصف له طيران الطيور وحركتهم في السماء بحيث يستطيع أن يكوّن رؤاه وتنبئاته بالأحداث. وجاكوبي أراد بتشبيه العقل بتيريزياس أن يؤكد رمزيا بأن العقل يكوّن مفاهيم وتصورات وحقائق لا ترتبط حتميا بالإدراك ولا بالحواس. فالعقل لا "يرى" الحياة أو الظواهر الحسية الواقعية التي من المفترض أن يفسرها. فكرة النفي المطلق للواقع المادي المحسوس بواسطة العقل، وعدم قدرة العقل على التواصل وإدراك هذا الواقع ستكون النقطة الأساسية التي سيحاول جاكوبي تطويرها وإثرائها في نظرية مختلفة للمعرفة، كوسيلة أو كسلاح لمهاجمة العقل والفلسفة التنويرية وكل الفلاسفة الذين يدافعون عن المذاهب العقلية. "العقل يعتبر موجودا ماهو "لاشيء"، وما هو موجود بوضوح ولا شك فيه يعتبره لاشيء. إنها طبيعة العقل النافية Néantisante." جاكوبي يعتبر بكل بساطة بأن الأشياء التي تجعلنا نعيش ونتحرك ونتفاعل مع العالم، هي أشياء غريبة تماما عن مقولات العقل. وفي روايته الثانية وولديمار Woldemare، يواصل جاكوبي حربه ضد فلسفة التنوير وضد الفلسفة عموما لدرجة أنه يدعى بأنه يتكلم من وجهة نظر "اللافلسفة"، بمعنى من وجهة نظر "الوعي الحي الفردي المتعين". ووجهة النظر هذه، لايمكن في رأيه للفلسفة أن تحيط بها أو تفهم تفاصيلها المعقدة، لأن الفلسفة لا يمكنها أن تفهم أو تفسر الحياة الخصوصية المتفردة وحرارة الواقع وتجلياته المتعددة إلا كتجريدات باردة ومفاهيم غامضة ومباديء تخلو من زخم الحياة وحرارتها المباشرة، الفلسفة لا يمكنها التعبير عن الحياة سوى بأشكال فارغة للفكر والكينونة والوجود. وإستمر جاكوبي في نقده "الهدام" للعقل والعقلانية وكأنه يستعد سرا لهجوم كبير منسق على الفلسفة لمحاولة تقويض أسسها الراسخة تاريخيا في التاريخ الأوروبي عموما والألماني خاصة، وهو هاجسه وهدفه الأساسي منذ البداية، حتى أتيحت له الفرصة عند وفاة الفيلسوف غوتهولد إفرايم ليسينغ Gotthold Lessing في 15 يناير سنه 1781، حيث يبدأ سلسلة من الرسائل والنصوص مع الفيلسوف موسيس مندلسون Moses Mendelssohn1786 - 1729، يتعرض فيها أساسا لنقد فلسفة سبينوزا وتفسير مذهبه وفلسفته الغامضة بإعتبارها فلسفة إرتيابية مقنعة تؤدي حتما إلى الإلحاد و"العدمية" المتخفية وراء شرعية العقل.
يتبع
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |