|
|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |

أكرم شلغين
2024 / 12 / 26
لطالما كانت سوريا، بموقعها الجغرافي المميز عند تقاطع الحضارات، ملتقى للشعوب والثقافات المختلفة على مر العصور. تميزت بقدرتها على احتضان التنوع الثقافي والديني والإثني، مما جعلها نموذجا للتعايش بين المكونات المختلفة. عبر التاريخ، شهدت سوريا هجرات واستيطانا من شعوب مختلفة، بدءا من الأرمن والشيشان والأكراد، وصولاً إلى العرب والفرس والتركمان، مما أضاف إلى نسيجها الاجتماعي الغني.
في العصر الأموي أصبحت دمشق عاصمة للدولة الإسلامية ومركزا للتبادل الثقافي والتعايش بين المسلمين وغير المسلمين. استقطبت الدولة الأموية شعوبا متنوعة من العرب والفرس والبربر وحتى الروم، حيث عاش المسيحيون واليهود تحت نظام “أهل الذمة” الذي ضمن لهم حرية العبادة وممارسة حياتهم... وقد أسهم هذا التنوع في النهضة العلمية والثقافية، إذ عمل المسيحيون واليهود في الترجمة والطب والإدارة، مما ساهم في تكوين مجتمع متعدد الثقافات.
مع وصول السلاجقة في القرن الحادي عشر، تزايد التفاعل بين المسلمين والمسيحيين واليهود. كانت مدن مثل حلب ودمشق مراكز مزدهرة للتجارة والفنون، حيث عملت الطوائف المختلفة جنبا إلى جنب. وفي تلك الفترة تجلى التسامح الديني بأبهى صوره، إذ أعيد المسيحيين واليهود إلى القدس بعد تحريرها من الصليبيين، مما عزز روح التعايش في سوريا.
هذا بالإضافة لما شهدته المنطقة من موجات هجرة من الأرمن الذين فروا من الاضطهاد وعلى أكثر من فترة أبرزها عندما استقر الأرمن في حلب ودمشق، وأسهموا في تطوير الحياة الاقتصادية والثقافية، مما أضاف بعدا جديدًا للتنوع السوري.
استمر التنوع في سوريا منذ قرون وقد مُنحت الطوائف الدينية استقلالية في إدارة شؤونها الداخلية، وهكذا استقرت جماعات مختلفة، مثل الشيشان والتركمان، في مناطق مختلفة من سوريا. جاء الشيشان في القرن التاسع عشر هربا من الصراعات في القوقاز، واستقروا في القنيطرة وريف حلب، حيث شاركوا في التنمية الزراعية. أما التركمان، فجاءوا مع التوسع العثماني واستقروا في حمص وريف دمشق، حيث انخرطوا في الأنشطة التجارية والزراعية.
كما شهدت هذه الفترة نشاطا تجاريا مكثفا على طريق الحرير، حيث استقر التجار القادمون من بلاد فارس والصين والهند في مدن مثل دمشق وحلب، مما ساهم في تعزيز التبادل الثقافي.
ومع بدايات القرن العشرين، أصبحت سوريا ملاذا للشعوب الهاربة من الاضطهاد، لا سيما الأرمن الذين فروا من المذابح العثمانية. واستقر الأرمن في مدن مثل حلب ودمشق وعلى نطاق أضيق في اللاذقية، حيث أسهموا في الصناعات الحرفية والتجارة. وفي فترة لاحقة، استقبلت سوريا اللاجئين الفلسطينيين بعد نكبة 1948، والذين أصبحوا جزءا من النسيج الاجتماعي السوري. وقبل ذلك استقبلت من اليونان ومن البلقان....
على مدى العصور، لعب الأكراد دورًا بارًا في الحياة الاجتماعية والسياسية في سوريا، خاصة في المناطق الشمالية. كذلك، كان للدروز دورا مميزا في جنوب سوريا، حيث شاركوا في الثورات الوطنية ضد الاحتلال الفرنسي وساهموا في تشكيل الهوية السورية.
هذه المحطات التاريخية تبين أن سوريا لم تكن مجرد نقطة عبور للشعوب، بل كانت وطنا احتضنها وأتاح لها المساهمة في بناء مجتمعه المتنوع. من الأرمن والشيشان إلى التركمان والعرب، ومن العصر الأموي إلى العهد العثماني، ظلت سوريا نموذجا للتعايش والتفاعل الثقافي.
يبقى تاريخ سوريا شاهدا على قدرتها الفريدة على دمج الشعوب والثقافات المختلفة في نسيج اجتماعي واحد. هذا التاريخ الحافل بالتنوع والتعايش يجعل سوريا نموذجا حيا للانسجام بين المكونات الأثنية والطائفية، ودرسا في أهمية التسامح والتفاعل الثقافي لبناء المجتمعات المزدهرة. وهذه سوريا التي نريدها بعيدة عن التقوقع والتشرذم والتشتت.
إنها سوريا بشعبها الواحد.