![]() |
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
![]() |
خيارات وادوات |
عبدو اللهبي
2024 / 12 / 25
عرفت الليبرالية الغربية بمبادئها التي تقوم على الحرية وحقوق الإنسان والمساواة، إلا أنها في العقود الأخيرة، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، أظهرت تناقضًا صارخًا. دعم الأحزاب الليبرالية الغربية لإسرائيل، رغم الجرائم والانتهاكات التي ترتكبها بحق الشعب الفلسطيني، يثير تساؤلات عميقة حول الأبعاد النفسية والسياسية لهذا الانحدار عن القيم الديمقراطية والمدنية التي طالما تبنتها الليبرالية. لفهم هذا التناقض، يمكن تحليل الموضوع من عدة زوايا تاريخية وسيكولوجية وسياسية.
من ناحية الأرث التاريخي والنفسي، خصوصاً بعد ماجرى في الحرب العالمية الثانية والمحرقة النازية (الهولوكوست)، ترسخت في الوعي الغربي مشاعر ذنب عميقة تجاه الشعب اليهودي. هذا الشعور دفع الدول الغربية، خصوصًا في أوروبا، إلى دعم إقامة دولة إسرائيل في فلسطين كنوع من "التعويض الأخلاقي". بالنسبة للكثير من الليبراليين الغربيين، أصبح هذا الدعم لإسرائيل مرتبطًا بالوفاء لمبدأ العدالة التاريخية، متجاهلين بذلك الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني الذي كان ضحية لهذا "التعويض".
من ناحية أخرى إسرائيل استطاعت تسويق نفسها في الغرب كدولة ديمقراطية صغيرة تواجه تهديدات وجودية من محيط "عدائي". هذا الخطاب الأمني، الممزوج بالخوف الغربي من "الإرهاب الإسلامي"، جعل الليبراليين ينظرون إلى إسرائيل على أنها حليف طبيعي ضد ما يرونه تهديدًا مشتركًا. هذا التحيز الأمني أدى إلى تبرير القمع الإسرائيلي للفلسطينيين تحت ذريعة "الدفاع عن النفس"، مما جعل القيم الليبرالية تتراجع أمام مشاعر الخوف والحماية..
إضافة الى الجماعات الضاغطة المؤيدة لإسرائيل، مثل "إيباك" في الولايات المتحدة،والتي تمارس تأثيرًا قويًا على السياسات الخارجية للدول الغربية. هذه الجماعات نجحت في ربط دعم إسرائيل بالقيم الغربية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، مما خلق انحيازًا تلقائيًا لدى الأحزاب الليبرالية. إضافة إلى ذلك، تعتمد بعض هذه الأحزاب على دعم هذه اللوبيات سياسيًا واقتصاديًا، ما يجعلها تتجنب انتقاد إسرائيل حتى في ظل الجرائم الواضحة..!
تعاني الليبرالية الغربية من أزمة انفصال بين المبادئ والتنفيذ. ففي حين تدافع عن حقوق الإنسان والمساواة داخل مجتمعاتها، تتغاضى عن انتهاك هذه القيم خارج حدودها، خاصة عندما يتعلق الأمر بحلفائها مثل إسرائيل. هذا الانفصال يُظهر تنافرًا معرفيًا ، حيث يحاول الليبراليون تبرير تناقضهم بحجج مثل "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، لتجنب مواجهة حقيقتهم المخالفة لمبادئهم.
وإضافة الى ذلك، أستطاع داعموا إسرائيل خلق إعلام موجه وصنع بورباغندا إعلامية وأكاذيب يتم تمريرها الى المجتمع الغربي.
فقد لعب الإعلام الغربي دورًا حاسمًا في صياغة مواقف الليبراليين تجاه القضية الفلسطينية. الرواية الإسرائيلية تُقدَّم كحقيقة وحيدة، بينما يتم تصوير المقاومة الفلسطينية كإرهاب. هذه الصورة المشوهة تدفع الليبراليين إلى الاصطفاف مع إسرائيل، معتقدين أنهم يدعمون دولة ديمقراطية ضد "الفوضى الإرهابية".
في بعض الأحيان، تُستخدم الليبرالية كغطاء للهيمنة السياسية والاقتصادية الغربية. دعم إسرائيل يُعتبر جزءًا من استراتيجية الغرب لتعزيز سيطرته على الشرق الأوسط. هذا يضع المبادئ الليبرالية في موضع ثانوي أمام المصالح الجيوسياسية والاقتصادية.
وأمام هذا التناقض، يلجأ الليبراليون الغربيون إلى الإنكار أو التبرير النفسي. بدلاً من مواجهة التناقض بين مبادئهم ودعمهم لإسرائيل، يبررون مواقفهم بالتركيز على سرديات مشوهة تخدم الرواية الإسرائيلية. هذا السلوك يخفف شعورهم بالذنب، لكنه يعمّق الانحراف عن القيم الحقيقية التي يدعون تبنيها.
وبالتأكيد، يمكن الربط بين التناقضات التي يعاني منها الحزب الديمقراطي الأمريكي، بما في ذلك دعمه المتفاني لإسرائيل، وبين خسارته الانتخابات لصالح شخصية مثيرة للجدل مثل دونالد ترامب.
الحزب الديمقراطي، الذي يرفع شعارات الحرية والمساواة وحقوق الإنسان، يعاني من فقدان الثقة بين شرائح واسعة من الناخبين، خاصة الجيل الشاب والمتنوع عرقيًا وثقافيًا. هذا الجيل أصبح أكثر وعيًا بالقضايا الدولية، بما في ذلك انتهاكات حقوق الإنسان في فلسطين، ويرى في سياسات الحزب تجاه إسرائيل تشكل ازدواجية في المعايير..
الجيل الشاب والجديد من الناخبين الأمريكيين، بمن فيهم الناخبون الديمقراطيون، أكثر ميلًا لدعم القضايا الإنسانية والمساواة عالميًا. موقف الحزب الديمقراطي الذي كان متردداً ومبالغاً في دعمه لإسرائيل رغم انتهاكاتها، خاصة في غزة، أدى إلى نفور هذه القاعدة من الحاضنة الحزبية وتفرقهم..
حتماً عندما يشعر الناخبون أن الحزب لا يطبق مبادئه بشكل متساوٍ، سواء في الداخل أو في السياسة الخارجية، يفقدون الثقة فيه، مما يدفع بعضهم إما إلى الامتناع عن التصويت أو إلى دعم منافسين مثل ترامب، الذي يقدّم خطابًا مختلفًا (حتى لو كان مليئًا بالوعود الزائفة).
ترامب، رغم افتقاره للمؤهلات القيادية الحقيقية وسجله القانوني المليء بالاتهامات، استطاع استغلال هذا الفراغ ببراعة.
التلاعب بالغضب الشعبي: ركّز ترامب على تصوير النخب السياسية، بما في ذلك الديمقراطيين، كجزء من "المؤامرة" ضد المصالح الأمريكية. دعمه الصريح لإسرائيل كان جزءًا من محاولة كسب الجماعات الدينية المحافظة واليمين المتشدد.
خطاب "الواقعية" المزيفة: قدّم نفسه كمرشح يتحدث "بصراحة" ويعد بتحقيق مصالح الأمريكيين أولاً، ما جذبه إلى الطبقات الشعبية التي شعرت بأنها مهملة من الحزب الديمقراطي..
خسارة الحزب الديمقراطي الآخيرة أمام ترامب ليست مجرد نتيجة للسياسات الخارجية، لكنها جزء من أزمة أكبر تتعلق بفقدان الهوية والقدرة على التواصل مع قواعده.
فإذا أراد الديمقراطيون استعادة ثقة الناخبين، يجب أن يعيدوا النظر في تناقضاتهم، خاصة في السياسة الخارجية. موقف أكثر عدلاً تجاه القضية الفلسطينية قد يجذب قاعدة ناخبين أكثر وعيًا وإنسانية.
استعادة المبادئ الحقيقية: عليهم أن يُظهروا أنهم ملتزمون بقيمهم، ليس فقط داخل الولايات المتحدة، ولكن أيضًا في دعم حقوق الإنسان عالميًا.
خسارة الديمقراطيين أمام شخصية مثل ترامب تُبرز الحاجة إلى مراجعة شاملة للسياسات والمواقف، وإلا فإن هذا التراجع سيستمر في إضعاف مصداقيتهم على الساحة السياسية الأمريكية.
ختاماً انحدار الليبرالية الغربية عن مبادئها في التعامل مع القضية الفلسطينية هو نتيجة تداخل معقد لعوامل تاريخية ونفسية وسياسية. من الإرث الثقيل للهولوكوست إلى تأثير اللوبيات والإعلام الموجّه، وجدت الليبرالية الغربية نفسها رهينة تناقضات خطيرة تهدد مصداقيتها الأخلاقية. استعادة هذه المصداقية تتطلب مواجهة شجاعة لهذه التناقضات، وإعادة الالتزام بقيم الحرية وحقوق الإنسان بشكل شامل وغير انتقائي..!!!!
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |