علاقة الشعوب مع الإستبداد السياسي، ورهانها على حرية لاتعرف معناها..!

عبدو اللهبي
2024 / 12 / 18

الشعوب التي تخضع لقهر السلطة تتحول تدريجياً إلى خانعة، مأسورة داخل قوالب الاستبداد. تصبح علاقتها مع الجلاد علاقة معقدة، تجمع بين الخوف والاعتياد، حتى تصل إلى مرحلة تعشق فيها جلادها وتعتبره رمزاً للقوة والاستقرار. وعندما يزول الجلاد ليحل مكانه آخر، يتلونون بتلون سلطته، ويتبعونه بنفس الولاء، متوارثين نمط الخضوع ومبرراته جيلاً بعد جيل.

إضافة إلى خنوع الشعوب للسلطة المستبدة، فإن تاريخ القمع والحرمان من التعليم يلعب دورًا حاسمًا في تكريس هذا الخنوع. فالاستبداد لا يكتفي بتكبيل الأجساد، بل يسعى إلى استعباد العقول، عبر حرمان الشعوب من أدوات المعرفة والوعي. الجهل يصبح أداة الطاغية الأهم؛ لأنه يسهل السيطرة على شعب جاهل، يخشى التغيير ويفتقد القدرة على التساؤل والنقد.

في المجتمعات المقموعة، يصبح التعليم إما غائبًا أو مُفرغًا من مضمونه، فلا يُعزز الوعي ولا يرسخ قيم الحرية، بل يُستخدم أحيانًا كأداة لتمجيد السلطة وتعظيم الطغاة. وبمرور الزمن، تُزرع في الأجيال مفاهيم مشوهة تجعلهم يقبلون الظلم ويبررونه، ظنًا منهم أنه قدر محتوم أو ضرورة لا غنى عنها.

إن قمع التعليم وإبقاء الشعوب في ظلام الجهل يُنتج مواطنين يفتقرون إلى أدوات التحرر الذاتي، فتتحول مطالبهم إلى مجرد حاجات مادية آنية، بعيدًا عن السعي للكرامة والحرية. وهكذا، يُعاد إنتاج الاستبداد مرة تلو الأخرى، لأن التغيير الحقيقي لا يمكن أن يحدث دون تعليم يُنير العقول ويُحفزها على التفكير الحر والناقد.

في أعماقهم، يغيب مفهوم الحرية الحقيقي، فهي بالنسبة لهم حلم بعيد المنال، يكاد يستحيل إدراك معانيه. فالحرية تتطلب وعياً وشجاعة وكسراً للقيود الذهنية، وهي أمور لم تعتدها الشعوب التي طالما قهرت تحت تأثير الاستبداد لفترات طويلة من الزمن..!

إن الحرية، في ظل هذه العقلية، تبدو سراباً بعيد المنال. فهي ليست مجرد غياب القمع، بل هي ثقافة ووعي وممارسة تُبنى على إدراك عميق للكرامة والحقوق. وهنا تكمن المأساة؛ إذ من الصعب على هذه الشعوب أن تفهم معاني الحرية أو تتطلع إليها بصدق، لأنهم عاشوا طويلاً في ظلال القهر، حتى غدت القيود جزءاً من هويتهم وكيانهم.

عندما تتحرر هذه الشعوب من قيود طاغية، ينفجر غضبها المكبوت فرحاً، فتمارس الاحتفالات الصاخبة وتقيم المهرجانات الكبيرة، ظناً منها أنها حققت الخلاص النهائي. لكنها، في خضم نشوة الحرية المؤقتة، تتجاهل أو تتغافل عن حقيقة القائد الجديد الذي جاء بحزمة جديدة من الاستبداد، قد تكون أكثر دهاءً وخداعاً من سابقتها.

عبد الرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الإستبداد" يرفض الثورة الفجائية ويدعو إلى الإصلاح التدريجي أولاً، لأن الاستبداد يُضعف الشعوب ويجعلها غير مؤهلة لتقبل الحرية دفعة واحدة..

إذاً ففي لحظة التحرر تلك، تُعطل العقول، وتُغيب الأسئلة الضرورية حول المستقبل، وحول طبيعة السلطة الجديدة. فالفرحة بالانتصار تُغشي البصر عن ملامح الطغيان الذي يتسلل بصمت. وهكذا، يُعاد إنتاج الاستبداد بشكل آخر، وتدور الشعوب في نفس الدائرة المغلقة، تتعلق بالرموز والشعارات، غير مدركة أن الطغاة يتشابهون، وإن اختلفت أسماؤهم ووعودهم.

الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو ذكر في كتابه" العقد الإجتماعي":
"أن الشعوب المستعبدة، وإن كسرت قيودها، تبقى بحاجة إلى وقت طويل لتتعلم معنى الحرية؛ لأنها لم تعتد سوى العبودية"..!

إن المأساة الحقيقية تكمن في أن هذه الشعوب، التي لم تتعلم دروس الماضي، تُكرر نفس الخطأ؛ تُسلم رقابها مجددًا لقائد جديد، تظنه المُخلّص والمنقذ، دون أن تُدرك أن تغيير الأشخاص لا يعني بالضرورة تغيير النهج. فتجد نفسها بعد حين تحت نفس السوط، وفي نفس القفص، حيث تُستبدل أدوات القمع فقط، بينما يبقى الاستبداد جاثمًا على صدورها.

إنها شعوب تُراهن على التغيير الظاهري، بينما تغفل عن التحرر الحقيقي، التحرر الذي يبدأ من العقل والوعي. فلا تحرير يُرجى ولا كرامة تُستعاد ما دامت العقول مكبلة بالخوف والجهل والاعتياد على الخضوع. إن "تحريرًا" آخر لن يجيء ما لم تتحرر هذه الشعوب من الداخل أولاً، وتُعيد صياغة علاقتها مع السلطة والحرية، بعيدًا عن أوهام القائد الملهم أو المخلص الفرد.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي