|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
مقداد مسعود
2024 / 12 / 14
( مرايا ) محمد عبد حسن
حين فتحتُ عينيّ.. لم يكنْ هناك أحدٌ. وباستثناء الضوء الشاحب المتسلّلِ من النافذة مثل اللص.. وبقايا صوتٍ تهرب عبر الخطّ المضاء أسفل الباب؛ كان كلّ شيءٍ في مكانه: صورة على الجدار المحاذي لرأس السرير، أراها بوضوحٍ في المرآة المهجورة أمامي. تجاورها ساعة متوقفة منذ زمن، لا أجد ضرورة لتغيير حجارتها كي تدور.
(- لنْ تحتاج أكثر من ذلك: صورة تذكّرك به.. وساعة ستتعلم، مع الوقت، قراءتها معكوسة في كلّ مراياك).
في المرآة الكبيرة المعلّقة وسط الجدار الطويل يسار السرير.. كنت أرى النافذة.. خزانة ببابين مفتوحين. وفيما يُظهر أحد طرفي المرآة جزءًا من إطار باب الغرفة.. يبدو واضحًا، على طرفها الآخر، كومدينو صغير ملاصق لرأس السرير تتوسطه كأس ماء لم يبقَ فيها الكثير.
(- اللعبة التي أنتَ فيها هي هكذا: أنْ تستدلّ على أشيائك وتصل إليها بواسطة مرايا ستجدها حيث تخطو. ومن خلالها ستفتح النوافذ، وتصل إلى الأبواب. وستنتهي اللعبة فقط عندما تصل باب الغرفة.. تفتحه وتخرج).
بعينين: واحدة ملتصقة بالمرآة الموضوعة أمام السرير.. وأخرى تراقب المرآة الجانبية الكبيرة؛ كرعْتُ ما تبقّى من ماءٍ في الكأس المستقرّة على الكومدينو.. ثم أدليتُ ساقيّ إلى الأرض.
وكما في كلّ يومٍ.. ستسلمني مرآة إلى مرآة.. نافذة لنافذة.. صورة بابٍ إلى أخرى تواجهها على الجدار المقابل. تُديرني يدٌ، لا أراها، مثل رحىً قديمة. أرى في الغرفة أبوابًا كثيرة.. خزائن لا تُحصى مشرعة كلّها.. نوافذ.. ساعات متوقفة.. صور لرجلٍ لا أعرفه.. وسرير واحد!
أتّجه إلى السرير. أنقلُ وسادتي إلى طرفه الآخر. وحين أضع رأسي عليها؛ تواجهني، على الجدار المقابل، مرآة كبيرة.. أرى عليها بوضوح صورة لرجلٍ، تجاورها ساعة متوقفة منذ زمنٍ لا أجد ضرورة لتغيير حجارتها كي تدور.
تشرين أول 2024 م
البصرة
من السكون إلى الصمت.... (مرايا) القاص والروائي محمد عبد حسن
مقداد مسعود
(*)
القاص والروائي محمد عبد حسن يمتلك ُمسافة وعي وطموح متجدد. بين (خرائط الشتات) روايتهُ المطبوعة الأولى، سبقتها روايتهُ الفائزة بجائزة في عمان 1996 (سليمان الوضاح) التي قرأتها مخطوطة ً، بين الروايتين مسافة تجاوز تقني و بين (سبعة أصوات) ونص (المرايا) ينتسب بجزئياته لرواية (سبعة أصوات) وهناك قصص قصيرة تنتسب لروايته (سبعة أصوات) السارد هنا يحدث نفسه، أكثر مما يخاطبنا نحن القراء، مهموما بحيزه الساكن الموحش..
(*)
تبدأ القصة بهذه الوحدة السردية: (حين فتحتُ عينيّ.. لم يكن هناك أحد) وهذا يعني قبل أن يغمض السارد عينيه كان حوله أكثر من أحد. السؤال هنا هو كالتالي: مَن خذله و نبذه في هذه الوحدة القاسية ؟ السارد ليس معه في معتزله سوى ضوء شاحب يتلصص عليه، وهناك (بقايا صوت) تهرب عبر الخط المضاء أسفل الباب، وهذا يعني أن الحاضرين وهم يشعرون بيقظته انسحبوا للتو!! ما الذي يمنعهم أن يتريثوا ويمكثوا قليلا مع السارد؟
(*)
الغياب الأشد قساوة ً هو سيد الوقت يحيل السارد إلى اقتصاد الضرورة (لن تحتاج أكثر من ذلك)..(صورة تذكّرك به).. ما بين القوسين ينضحُ قليلاً من الوضوح وغزيراً من الغموض. وهناك التضاد المقلوب، المجسد بطريقة الجلوس خلف مقعد السائق، هذا الجلوس الاضطراري مزعج جداً ..(وساعة ستتعلم مع الوقت، قراءتها معكوسة في كل مراياك)
(*)
المرايا تصير جسوراً للرؤية بالنسبة للسارد العليل (في المرآة الكبيرة المعلقة وسط الجدار الطويل يسار السرير.. كنت أرى النافذة.. خزانة ببابين مفتوحين) والمرايا ستكون وسيلة نقل للسارد وهو يخاطب نفسه بضمير المخاطب:
(1)أن تستدل على أشيائك وتصل إليها بواسطة مرايا ستجدها حيث تخطو
(2) ومن خلالها ستفتح النوافذ
(3) تصل إلى الأبواب
(4) ستنتهي اللعبة فقط عندما تصل باب الغرفة.. تفتحه ُ وتخرج
تستدل ُ قراءتي أن وظائف المرآة تتنوع وتتمرد على طبيعتها، فالمرآة تكون جسراً توصل السارد إلى أشياء أخرى في الحيز المغلق القابع هو فيه، وخلال المرايا يفتح القابع النوافذ والأبواب.. بل يصل إلى باب الغرفة ويتحرر من عزلته الخانقة.. لكن يبدو ليس لديه قدرة على التحرر
(*)
ثم يخبرنا السارد فنعلم كيف تم شربه للماء مرآويا ً (بعينين : واحدة ملتصقة بالمرآة الموضوعة أمام السرير.. وأخرى تراقب المرآة الجانبية الكبيرة الجانبية؛ كرعتُ ما تبقى من ماء في الكأس المستقرة على الكومدينو) ما بين القوسين عسير فهمه على القارئ!!
(*)
هذا الكائن المعزول القابع في حيز مغلق، تَحرّكه ُ ليس ذاتيا وبشهادته (تديرني يدٌ لا أراها) هل هي يد الرحمة؟ ثم ينتقل من التعميم إلى التشبيه (مثل رحى قديمة) ثم تتسع الرؤية لدى السارد في الحيز الضيق :
(1) أرى في الغرفة أبواباً كثيرة
(2) خزائن لا تحصى مشرعة كلّها
(3) .. نوافذ
(4) .. ساعات متوقفة
(5) .. صور لرجل لا أعرفه
(6) .. وسرير واحدا! هنا عودة لقصة حول سرير لرجل لا يعرف السارد ترد ضمن رواية (خرائط الشتات)
(*)
هنا يكون النص في الطريق إلى الاستقرار من خلال الشخص وهو يتجه نحو السرير، ينقل وسادته إلى الطرف الآخر، ويعاود النظر غير المباشر من خلال مرآة تواجهه تنعكس عليها (بوضوح صورة لرجل)
وهذه الصورة تنتسب لماض متوارٍ من العبث استعادته، فالصورة تجاورها (ساعة متوقفة منذ زمن ) والسارد لا يجد (ضرورة لتغيير حجارتها كي تدور)
(*)
مشيدات القص في (مرايا) القاص محمد عبد حسن : حيز مغلق.. رجل منتبذ.. زمن آفل.. مرايا.. سرير.. رجل مغيّب.. خزائن والأهم من كل هذا هناك أزمنة تيبست واستقرت في يباسها مثل (ساعات متوقفة)
السؤال هنا : الرجل المستلقي على سرير قد يكون ليس له، هذا الرجل هل سينضّد ضمن الساعات المتوقفة ؟ ومن أوصله لهذا المآل؟ وما السبب؟ هذه الأسئلة متروكة لفاعلية القراءة، فالقاص انتهت مهمته
وبدأت مهمة فطنة القارئ.