مسرحية عندما تتكلم الأيام

رياض ممدوح جمال
2024 / 12 / 14

تأليف : رياض ممدوح جمال
المكان : صالة استقبال في بيت لطيف، جيدة التأثيث، تليق بأستاذ جامعي ومسرحي كبير.
الزمان : العاشرة صباحاً. أحد أيام عام 1974
الشخصيات :
سالمة : ربة منزل، في الاربعين من العمر.
امينة : سيدة في الخامسة والثلاثين من العمر، ترتدي ملابس غامقة وعليها ملامح الحزن.
لطيف : رجل في الخامسة والأربعين من العمر، مدرس في فن المسرح.

المشهد الأول
(سالمة وامينة جالستين على اريكتين فخمتين متقابلتين في صالة انيقة)
سالمة : اهلا، اهلا، بابنة اختي. كيف انتِ ؟ اني اتلقف اخبارك من الاخرين وانتِ خارج البلاد.
امينة : نعم لقد مضى اكثر من عشرِ سنوات لم اراك فيها. لقد جئت بدعوة من زملاء واصدقاء زوجي خالد لأنهم سيقيمون نصب تذكاري وحفل تابين له ولألتقي فيها بالأهل والاحبة لعدة أيام.
سالمة : اه، البقاء لله. ان طريقة موته لم تسمح لنا بقيام الواجب معك، ولم نراك منذ ذلك الوقت.
أمينة : لقد قتلوه بطريقة بشعة، وأضاعوا جثته. فَهرّبنا أصدقائه، أنا وطفلنا، إلى خارج البلاد، وتكفلوا بنا طوال هذه المدة، وحصلنا على الاقامة هناك.
سالمة : لعنة الله على السياسة، كم دمّرت، وكم يتّمت، وكم رمّلت، وكم ثكلت.
امينة : لا يجوز لك ان تخلطي الاوراق، وتلعني الظالم والمظلوم، على حد سواء. فإن القتلة والطغاة أيضا يسمون أنفسهم سياسيين.
سالمة : السياسيون أكثر الناس عنادا، وعنادهم لا حدود له، رحمهم الله جميعاُ.
امينة : (مبتسمة) هذا كان موضوع نقاشك الدائم مع خالد، ولم تفلحي معه، ولكنك فلحت مع زوجك، فترك السياسة والسياسيين.
سالمة : (مبتسمة) هي تركته، ثم تركها هو، والحمد لله.
امينة : ( نظرة ذات مغزى ) وكفى الله المؤمنين شر القتال.
سالمة : اشكر لك زيارتنا، واهلا بك في بيتنا الجديد، لقد سعدت كثيراً بزيارتك.
امينة : جئت لزيارتك وكأني جئت أزورَ أمي، انا متأكدة انها ماتت كمداً عليّ.
سالمة : انتظرتك طويلاً، ولكن الموت كان اسرع منك اليها.
امينة : لقد حصد الموت منا الكثير من الأحبة. انهم قِطَع من القلب، يتساقطون كأوراق شجر الخريف. ويتبخّرون كقطرات الندى. وكأنهم لم يوجَدوا من قبل. ولم يكونوا إلا كحلم قديم، ونار في القلب تأبى الخمود.
سالمة : سنُسعَد اليوم بألذ غداء معك. ويفرح لطيف كثيراً حينما يعود من عمله ويراك هنا، ونتناول طعام الغداء سوياً.
امينة : لن ابق على الغداء، يا خالتي. فلدي الكثير من الالتزامات مع الاهل والاحبة.
سالمة : هل يُعقل هذا، ان تخرجي وقت الغداء، من دون ان تتناولي الغداء معنا. سيحزن لطيف كثير اذا لم يراكِ.
امينة : لو كان الغداء معك لوحدك، لكنت قد بقيت.
سالمة : اه، الان فهمتك يا عزيزتي. ولكن..
امينة : ارجوك يا خالتي، جئت لأراك انت فقط، ولا احتمل رؤيته.
سالمة : ارجوك احتملي كلامي، من اجلي انا، انا في مقام امك المرحومة.
امينة : وما جدوى الحديث في هذا الموضوع، وما الذي سيتغير ؟ هل سيعيد ذلك زوجي ؟ انه السبب في القبض عليه، وموته تحت التعذيب.
سالمة : انتِ قُلتيها، انه السبب. فان لم يكن هو، فسيكون هناك سبب غيره. إنهم كانوا حتما سيقبضون عليه، في كل الاحوال. فليس من العدل تحميل لطيف كل المسؤولية. انا لا أقول ذلك دفاعا عن زوجي فقط، بل لتوضيح الصورة لكِ.
امينة : يظهر أن الصورة غير واضحة عندك انت، وليس عندي. فأنا اُحمل لطيف المسؤولية، ولا اقبل موقفه الضعيف ذاك. وتخليه عن أعز صديق وقريب لديه.
سالمة : ليس كل البشر من طينة واحدة، فلكلِ له طاقة تحمّل تختلف عن غيره. والخوف طبيعة انسانية عند الجميع ولكن بتفاوت ودرجات.
امينة : ليس لدرجة ان يلومه حين التجأ اليكم زوجي هرباً من القتلة، وكان التواجد خارج البيت يعني الاعتقال المؤكد، لوجود قرار منع التجوال. فاضطر خالد ان يخرج من عندكم والقي القبض عليه. فلولا رعب لطيف ولومه ذاك، لما خرج خالد من عندكم في تلك الليلة.
سالمة : كان من يتستر على شخص مطلوب لهم، يُعدَم الاثنان معاً، وعائلتهِ. وانه خاف عليّ انا ايضاً، وعلى اخوته واهله. لأنه لو قُبض على خالد في بيتنا، لتّم إعدامنا جميعاً. وانا اعلم بطبيعة لطيف، انه يحب ان يمشي بجانب الحائط، كما يقال.
امينة : ليس لدرجة انه يخشى أن يرفع يده لإبعاد الذباب عن وجهه. وبالمناسبة، سمعت انه سيُخرج مسرحية عن البطولات المزيّفة للطاغية. أليست هذه خيانة لمبادئه ومبادئ رفيقه خالد، الذي استشهد تحت التعذيب لصيانة مبادئه ورفاقه ولطيف احدهم ؟
سالمة : لطيف الان تدريسي ومخرج مسرحي، لا يُساير السلطة، بل اصبحت هذه هي مهنته، ان يُخرج ما يكتبه الاخرون، وهذا افضل الممكن.
امينة : ليس للدرجة التي يُقبّل فيها فم الاسد العفن. وان يتمرّغ بالأوحال، مع الخنازير مدعياُ، الهيام بها.
سالمة : ليس الامر هكذا. لطيف، نعم ترك العمل في السياسة، لكن لم يتخلى عن مبادئه واخلاقه.
امينة : ليحفظه الله لك، لا اقول غير ذلك.
سالمة : اه، لو تعلمين كم يحبك هو، ويقدّس ذكرى المرحوم خالد.
امينة : وما الفائدة ؟.. المهم عليّ الان المغادرة.
سالمة : لا احب ان تغادري وانت مليئة بهذه المشاعر، يا حبيبتي. فربما لن نلتقي ثانية.
امينة : اتمنى لك كل الخير والسعادة. إلى اللقاء.
سالمة : وربما، الوداع.

المشهد الثاني
(نفس المنظر السابق ولكن لطيف بدلاً من امينة)
لطيف : أرى انك لست على ما يرام.
سالمة : وكيف يبدوا ذلك عليّ ؟
لطيف : انا زوجك منذ خمسة وعشرون سنة، فكيف لا اعرف ان كانت حبيبتي ليست على ما يرام.! اخبريني ما الامر ؟
سالمة : لقد زارتنا اليوم امينة، ابنة اختي.
لطيف : ماذا ؟ امينة ابنة اختك ؟
سالمة : نعم هي. وقد عادت للبلد في زيارة قصيرة.
لطيف : ولماذا ارى انك لست على ما يرام، اليس من المفروض ان زيارتها مصدر سعادة، وخاصة لك انت، خالتها ؟ ولماذا تركتها تذهب ؟ كنت اتمنى لو اني رأيتها. إنها زوجة حبيبي خالد، رحمه الله.
سالمة : انها لا تريد ذلك.
لطيف : لا تريد ماذا ؟
سالمة : لا تريد رؤيتك.
لطيف : ماذا ؟ ما الذي تقولينه ؟ ما هذا الذي اسمعه ؟ اكثر من عشر سنوات انا بانتظار أن تأتي اللحظة التي سأقابلها فيها. انها زوجة اعز مخلوق عندي. إنها زوجة خالد، خالد نصف حياتي الذي مات. إذن كنت مخدوعا طوال العشر سنوات الماضية! كنت منتظرا لقاءها، لقاؤها اللقاء بخالد. كم كنت احلم بهذا اللقاء، كم خلقت في مخيلتي الاف السيناريوهات لهذا اللقاء، كنت اعتقد ان امينة ستبحث عن لقائي، قبل اي شخص اخر. انا كنت أقرب انسان إلى خالد. وفي الاخر، امينة لا تريد رؤيتي! ما الذي تعتقده فيّ أنا ؟ اه، لا اصدّق الذي يجري. هل انا في حلم ام في الحقيقة ؟ هل هناك امر اجهله الى هذا الحد ؟ هل انا مغفّل الى هذا الحد ؟ لقد فقدتُ نصف حياتي بموت خالد، والآن افقد النصف الثاني بموت مكانتي في قلوب من احبهم، ولا حياة لي بغير محبتهم، محبتهم من محبة خالد، وهي كل شيء في حياتي. ما هي جريمتي ؟ ماذا فعلتُ، لاستحق ذلك ؟ ماذا قالت هي ؟ وما الذي فهمتِه منها ؟
سالمة : قالت انك كنت السبب في القبض على زوجها.
لطيف : اه، يا الهي، اي جنون هذا ! وما علاقتي انا بالقبض عليه ؟
سالمة : تذكر عندما التجٲ خالد عندنا ليختبئ من القتلة، قلتَ له أن وجوده في بيتك خطر على الجميع، وانك خائف عليّ وعلى اخوتك، فاضطّر هو للخروج من البيت، وقُبض عليه ؟
لطيف : نعم اذكر ولا انكر. وما ذنبي ان متُ من الخوف عليكم ؟ ذلك ليس في يدي. ولا سيطرة لي على خوفي. فما ذنبي انا ان لم اسيطر على اعصابي، وهو الذي خرج بإرادته، وحتى دون علمي، ولم اسلّمه أو أبلّغ عنه.
سالمة : (مازحة) لو لم يُغم َعليك، لربما فعلتها، وابلغت عنه.
لطيف : حتى انت يا بروتس !
سالمة : هذا عن الماضي، ولكنها تعتب عليك لعملك على مسرحيات تلطف صورة النظام الذي قتل خالد. وان صورتك لدى امينة ورفاقها سيئة، وان اسمك هناك يُقرن كنقيض لاسمه وقرين له، كالاسخريوطي والسيد المسيح.
لطيف : اذن كم ان صورتي سوداء في نظرهم، يا الهي ! سأصاب بالجنون. لم يُقبض على خالد عند باب بيتي، ولا في نفس يوم خروجه من عندي، قُبض عليه في مكان آخر، ويوم اخر، وليس في نفس اليوم، لأكون انا السبب المباشر للقبض عليه. وكان لابد سيقبضون عليّ في كل الأحوال. فلم يكن في حينها، للقطة أن تفلت من بين أيديهم. وليس من الحكمة ان نموت معه نحن جميعاً. وموتنا ليس بذا جدوى، ولا يخدم أحد.

المشهد الثالث
(حوار بين لطيف وصوت خالد)
لطيف : اعترف لك اني حينها، قبل عشرة سنوات، اعتقدت، لا بل تيقّنت اني ميّت لا محال، ليس انا وحدي، بل زوجتي واخوتي، بسبب وجودك في بيتي.
الصوت : لكن الارتجافة التي ارتجفتها انت في حينها، كأنّ الحياة السّيالة تفوق الالماس قيمة. وان الموقف والطريقة التي تجرّدت فيها عنّي لا تليق، وانا الإنسان الأقرب إليك !
لطيف : كنت لحظتها سأتجّرد من نفسي لابقي على روحي، واهلي وزوجتي.
الصوت : انه الخوف يا عزيزي. فأنا ضحّيت حتى بولدي الوحيد.
لطيف : ان كلمة خوف غير كافية لتختصر الوجود بكامله، نحتاج كلمة اكبر منها بكثير لوصف الحالة. وحتى لو افترضنا اني تدرّبت واعدت الموقف نفسه الاف المرات، رغم استنكاري له ولنفسي، لما تصرّفت الا ذات التصرف. لا استطيع التضحية بعائلتي ابدا.
الصوت : ما قيمة العشرة سنوات الزيادة التي عشتها تلك ؟ اليس في النتيجة انا الفائز ؟
لطيف : أنتَ اله ولستَ انسانا. انا لا استطيع ان اكون، حتى لو اردتُ ونويت وأصررت ان اكون مثلك، فلن اكون ذبابة على مشبّك مانع الذباب في شبّاك محرابك.
وانا على يقين، انه حتى لو اردتُ تغيير شيء من موقفي ذاك الان، لما استطعتُ أن أغيّر ذرّة واحدة في موقفي اللا ارادي، ذلك الذي لا أخجل منه. لا يمكنني ان اضحي بعائلتي، فلست الان نادماً ولا آسفا ولا مستعارا ولا، ولا، ولا.. فانا هذا هو على حقيقتي. وان ذلك لا يدعوني حتى للخجل، فأنا أمامك وأمام نفسي عاريا، وأتقّبل موقفي هذا بكل رحابة صدر فهو حقيقتي ولا أقبل تزييفها، فضعفي هو حقيقتي.
الصوت : ان سنتمتر مكعب واحد من الالماس يفوق في قيمته، جبل من الحجارة والتراب. فان صمودي وسيطرتي على خوفي، يوم زيادة او حتى ساعة زيادة تفوق قيمة العيش لخمسين سنة اخرى زيادة.
لطيف : انا مؤمن بصحة كلماتك كلها، وافهمها بعمق، فانا استاذ الكلمات، استاذ تدريس المسرح. ولكني لست اسفنجة بل مرمر لا يمتص الماء. فلا جدوى. فأنت تفوق عندي حتى الانبياء، ولكني لا أستطيع ان اتبعك.
الصوت : انا اتصورك كعلكة اللبان التي تُسحَق بين الاضراس راضية، ولا شكل لها، ولا ارادة، سوى ارادة البقاء المُذِل.
لطيف : ولكن اُعيد واكرر بملء فمي، هذا هو انا. ولا اقول هذا كنوع من التقّبل لنفسي على علّاتها، ولكني كالمُبتلى بها، ولا ارادة لي عليها سوى الخضوع. وذلك من أجل غيري ايضا، من أجل من أنا مسؤول عنهم.
الصوت : انظر الى نتيجتنا الاخيرة ! وتقييم الرفاق والتاريخ لكلينا.
لطيف : ان العشرة سنوات الماضية هي كخطين لسكة قطار، لا يلتقيان، ولا يفترقان، موجودين ولا غنى لاحدهما عن الاخر، بل لا وجود لي دونك، ولكن كل الوجود لك بالغنى عني.
الصوت : هل كان هدف حياتك ان تعيش عشر سنوات زيادة ، ولا هدف لك في الحياة غير ذلك ؟ ويا له من هدف طويل الامد ! ان الانبياء والمصلحين عبر التاريخ...
لطيف : ارجوك لا تذكرهم امامي، فانا لا استطيع ان اتّبعهم فعلياً وعمليا ولا بخطوة واحدة، ولكن بالكلمات لا أحد منهم يسبقني، لا بل انا اسبقهم. ولكني امامك، فكلما ازددتَ انت سمواً في نظري ونظر الاخرين، سأزداد انا جَلداً لذاتي. ان كلمات وجهود كل العالم اجمع لا يمكنها ان تجعلني اجتاز حبل على ارتفاع شاهق.
الصوت : اني احسّ وكأنّي اجلس على جبل من ثروة، وانظر اليكم كيف تشحذون الحياة. فانا حقا اشفق عليك انتَ وامثالك. فانتم مساكين، دود الارض.
لطيف : ان الاسخريوطي كان يقدّس المسيح، ولكنه قدّس حياته اكثر. واهل العراق بايعوا الحسين، ولكنهم بايعوا حياتهم اكثر. وان الرجل الغريق يضع تحت قدميه حتى ابنه، ليرفع انفه ويشم هواء الحياة. فلست الشيطان المعاند لك يا خالد، ولكني انا الاسخريوطي الذي لا يمكنه ان يخلص لك ولا حتى ان يسايرك. فاحكم انت بما شئت. ولكني قد حكمت مسبقا على نفسي. ان الخوف شيء طبيعي عند البعض وغريب عند البعض الاخر. ولا يمكن لوم الارنب على خوفه، ولكنه مستهجَن عند الاسد. فلا تطلب من السمكة تسلّق الشجر، ولا من الطير سبر اغوار البحر. ولا تستغرب سواد جِلد الرجل الاسود، وتنبهر ببياض بعض البشر. فلا تطلب من الماء ان يكون نارا، ولا تطلب مني ان اكون خالد، ولا ترض انت أن تكون لطيف. ثم لو اننا جميعا كنا قد حذونا حذوك، سنصبح كالحيتان التي تنتحر جماعياً دون هدف، بدفع أنفسها إلى شاطيء البحر، دون أن تحقق سوى موتها. ليس فخراً للعصى أن تنكسر أمام الريح، فمن الحكمة أن تنحني لتمرّ الريح ثم تنتصب. انه تحكيم العقل لا القلب. وان كان لنا قضية، فإن الأولى بنا أن نعيش من أجلها، لا ان نموت من أجلها. فالقضية تحتاج حياتنا لا موتنا. لو ان غاليلو تحدّى رجال دين عصره، هل كان سيتغير من امر دوران الارض شيئاً ؟ انت نفسك كنت خارج البلد حين اندلع بركان القتل هنا، جئتَ ورميت نفسك وسط البركان، وتحت انياب ومخالب الوحوش. فهل هذا من الحكمة ! حين تريد انقاذ ابنك الذي سقط في البئر، فهل من الحكمة ان تلقي بنفسك انت ايضا في البئر ؟ أليس من الانفع أن تنقذه وانت خارج البئر وتمد له يد العون ؟ اليس هذا هو الانتحار بعينه ؟
الصوت : لا تمنطق الامور على هواك يا لطيف. وما هكذا توزن الامور. لو تبنى الامام الحسين منطقك هذا، لما قدِم الى العراق، ولما أصبح نبراساً للأجيال من بعده لألاف السنين، ولما ارتقى المسيح على الصليب. لكل حقبة في التاريخ، لابد من ايقونة بشرية قائدة كدليل البشرية للعودة الى جادة الصواب، حين تبتعد عنها، مثل إنارة الشوارع ليلا، بعد كل مسافة لابد من عمود. وعلى المرء ان لا يتمسك دائماً بالحياة، كما تتمسك الافعى بالأرض بكل جسدها، بل يجب عليه احياناً وعند الضرورة، أن يمتلك روح الطائر ونظرته للأمور من الاعلى. فالطائر لا ينظر الى ما تحت قدميه، بل الى ابعد من ذلك بكثير، وكثير جدا. فسيبقى اسمي عاليا، كالطائر في السماء، ويبقى اسمك انت، على الارض او في باطنها، يزحف كالأفعى على بطنه.
لطيف : لنكن عمليين وواقعيين، أليست قضيتنا هي الناس، والارتقاء بهم إلى وضع افضل ؟ من خلال عملي المهني والأكاديمي، خرّجتُ أجيال وزرعت فيها ما استطعت من افكارنا الإنسانية وحب الحياة. أليست هذه خدمة لقضيتنا التي آمنّا بها، ومنحتَ حياتك لتحقيقها ؟ أليس هذا ما اواصل العمل عليه الان ؟ ام ان موتنا كان سيخدم القضية اكثر ؟ ليس في مقدور الطغاة استبدال عقولنا من جماجمنا ان لم نرد نحن ذلك. فما المانع أن نكون كالماء الجاري في الجدول، نراوغ الصخور لنواصل المسير نحو أهدافنا ؟
الصوت : الحقيقة لا تُحجب بالكلمات، مثلما أن الشمس لا تُحجب بالغربال، تقول، انك سيد الكلمات. ولكن لا يمكن أن تكون بالكلمات سيداً للحقيقة. في العشرة سنوات الماضية، كنت انت وامثالك، تهمسون من اجل القضية، اما الشهداء فإنهم كانوا بمكبرات الصوت يعلنون القضية. ان ما حققته انت، وكل جيلك، في العشر سنوات الماضية، حققه موتنا المدوي، أنا ورفاقي، في يوم. دائما كانت دماء الشهداء زيتاً يضيئ مصباح درب الشعوب. موتنا لم يكن عبثاً، كما تتصور، دفعنا القضية خطوات كبيرة إلى الأمام. ورفعناها درجات الى الأعلى. موت كل شهيد من اجل القضية، هو حجر كبير يُلقى في بُرَك الشعوب الراكدة. كل شهيد، بذرة تُغرَس في عقول الشعوب. الشهيد يقدّس الحياة، ويموت ان احتاجت شجرة الحياة لموته. ويعلم ان تملّقه للضباع غير مجدِ.
لطيف : نحن لا نتملّق للضباع، ولكن اسلوب كلينا في قتل الضباع يختلف، والهدف واحد. نحن لم نخن القضية، وانما نرويها بصنف من دمنا يختلف عن صنف دمائكم. ولكل منا صنف دم يختلف، ولكننا نسقي الحياة سويا. انتم في اسلوبكم وعملكم السياسي، ونحن في اسلوبنا وعملنا الفني، بالفن نصنع الحياة، وندفع القضية للأمام، والمسرح اقوى اسلحتنا.
خالد : ليس السلاح هو المهم، الانسان الذي يحمل السلاح، هو الاهم.
لطيف : نعم، اذكر اصرارك على خياراتك للمسرحيات التي كنت تقدمها، لتلاميذك، عندما كنتَ معلما في مدرسة ابتدائية.
خالد : انتم حولتم هذا السلاح الى مزمار. حولتم السيف الى سكين في المطابخ. حولتم خيول الفرسان الى خيول سباق ورهان. ولابد للقاتل من القتل. لا يمكن مواجهة الوحوش بكتب المنطق، فان الطغاة، اكثر وحشية من الوحوش.
لطيف : اصبح الانسان قادرا على ترويض حتى الاسود، بكتب المنطق نعم، وليس بالسلاح.

المشهد الرابع
(نفس المنظر السابق، تدخل سالمة، تحمل بيدها سكين المطبخ، تجلس إلى جانبه، وتلاحظ انهياره وتعبه، فتضع السكين على المنضدة امامهما، فتحاول مشاركته).
سالمة : ما لي اسمع صوتك وانا في المطبخ بعيدة ؟
لطيف : لا زلتُ غير مصدّق موقف امينة منّي.
سالمة : لا تضخّم الأمور يا عزيزي. ولا تهتم لرأي الآخرين بك، ما دمت مقتنع انت بنفسك. وانا اعرف انك انسان هادئ، وتأخذ الأمور بعقلانية وروية.
لطيف : لكن هذا الامر، افقدني عقلي. وان لراي الاخرين اهمية، لا يمكننا ان نهمله، وخاصة رأي من نكن لهم كل المحبة والأهمية.

(يرن جرس الهاتف، تنهض سالمة وتذهب للرد عليه، تبدو عليها علامات الانفعال والأحمرار والغضب وتغلق الهاتف، دون أن نسمع شيئاً من المحادثة، وتأتي وتجلس مكانها بارتباك لا يمكن اخفائه).
لطيف : من المتصل ؟ وما الذي جرى لك ؟
سالمة : لا شيء، انها مكالمة سخيفة.
لطيف : انك لا تجيدين الكذب عليّ، يا عزيزتي. ولن اتركك من دون ان اعلم كل شيء. قولي من المتصِل ؟
سالمة : انها أمينة. وأرجوك أن لا تلحّ عليّ لمعرفة ما قالت، ارجوك، ارجوك.
لطيف : كيف يمكنني ذلك ؟ لو كنتِ انت مكاني، لفعلتِ ما افعله. ارجوك اخبريني، ما الذي قالته امينة لك، بحيث تغّيرت ملامحك كلها ؟
سالمة : اترك الموضوع لوقت اخر، ارجوك.
لطيف : لا يمكن ذلك أبداً. انك تقلقينني اكثر. هيا قولي.
سالمة : (تنفجر غضباً) انهم عالم ذئاب، ينهش بعضهم بعضاً، تأتيك أقوى العضّات من الأقرب إليك. كيف ينقلب الإنسان ذئبا بهذه السهولة ؟
لطيف : اهدئي، يا حبيبتي، وقولي لي بهدوء، ما الامر، ماذا قالت لك امينة ؟
سالمة : نقلت لي ترهات، وكلام سخيف تناقلوه رفاقها، اليوم اثناء التابين ونصب الشهيد خالد.
لطيف : اتوسل اليك، قولي لي ما ذا يقولون، وأريحيني ؟
سالمة : أعلم جيداً انك سوف لن ترتاح أبداً، ولكن لابد لي من ذلك. يقولون انك سبب استشهاد خالد.
لطيف : هذا ليس جديد عليهم، سبق لهم ان قالوا ذلك. الم تقولي لي، ان أمينة هذا الصباح قالت ذلك، وقالت ان خالد خرج من داري بسبب خوفي، فاُلقي القبض عليه. هذا ليس جديداً، سبق ان سمعناه.
سالمة : لكن الذي لم انقله لك من قولها هذا الصباح، انه هناك اقاويل بين رفاقها في الخارج، بانه كان لك علاقة وتعامل مع اجهزة امن السلطة فسلّمت خالد لهم. وهي تقول انها لا يمكنها ان تؤكد ذلك ولا ان تنفيه.
لطيف : لم تقولي لي ذلك، يا الهي.
سالمة : لم اشأ أن تعلم انت بذلك. لكن بلا جدوى، لابد لك ان تعلم.
لطيف : هذا ما قالته صباحا. وماذا قالت الان على الهاتف ؟
سالمة : قالت إن نفس التهمة الاخيرة تداولها الرفاق، في تجمعهم اليوم، بمناسبة ذكرى استشهاد خالد.
لطيف : اذن المسالة ليست خاصة بأمينة، وليست محصورة بتهمة الخوف والسبب غير المباشر لاعتقال خالد كما يدّعون !
سالمة : لا تُعر لهم اي اهتمام، ما داموا هم بهذه الخيانة، لقد احترقوا في نظري جميعهم، بما فيهم ابنة اختي امينة، التي هي ايضا اصبحت غير امينة. انا من يعرفك جيداً، لا احد يعرف الرجل مثل زوجته، لا احد يعرف ان كنت خائنا ام مخلصا، مثلي انا. لو اجتمع العالم كله على أن يخّونوك، ويلصقوا التهمة فيك، فسأبقى انا وحدي من يدافع عن نزاهتك وفضح اكاذيبهم. كن يا حبيبي قويا بي، وآمن بنفسك وقاومهم جميعا، والآن عليك أن تُظهر بطولتك امام هذه الموجة العاتية. في لهيب النار تُعرف المعادن الثمينة. أمن بنفسك، وانا من ورائك ضد العاصفة.
(تأتي إلى لطيف وتربّت على كتفه حانية، وتذهب الى المطبخ)
لطيف : لقد رضيت منكم ان تتهمونني بالجبن، اما الخيانة فلا. نعم ربما اكون جبانا، لكن ان اكون خائنا، لا، لا، اموت ولا اكون خائنا. ان من يؤمن ذرة واحدة بمبدأ ما، لا يمكن له ان يخون، مهما كان جبانا، او ضعيفا. فالإنسان روح وليس جسدا فقط، فيمكن ان يُسحق الجـسد، وتبقى الروح حية بأيمانها، ما دامت هي تُريد ذلك. كان من المــمكن أن ارتجف أمام القتلة، وممكن ان ابكــــــي او حــــــتى ان اتوسّل بهم، او ان امـــــوت تحـــت سياطهم، نعم، اكيد ممكن كل ذلك، ولكن لا يمكن ان أكون خائنا. نعم، ربما لن أموت ميتة خالد في تحدّيه لجلاديه، لكني كنت سأموت حتــــما وانا صـــامتا اغــــــلق نفسي على محبة مبادئي، كمحارة في جوفها اللؤلؤ. لا، ممكن ان اتقّبل اي تهمة منكم الا تهمة الخيانة. اتجرع الحنظل عسلا، والموت عرسا لي، ولن اتجرع اتهامكم لي بالخيانة لقد نجح عدونا في تسخير ايديكم لقطع رقبتي، لقد نجح في عدم تلويث يديه هو في دمي، ولكي لا يَخلق مني شهيدا آخر. لقد نجح بمكره ان يضرب عدة عصافير بحجر واحد، جعل منكم قَتلة، وسيكشف التاريخ ذلك، وجعل مني خائنا، وجعل من قضيتنا دوامة تأكل اولادها. نجح في تحويل الجبال الى وديان، وتحويل الوديان الى جبال. ونجح في تسمية السماء ارضا، والأرض سماء، والليل نهارا، والنهار ليل. والمخلص خائن، والخائن مناضلا مخلصا. لا، لن اسمح لأعدائنا بالنجاح. سأكون قنبلة تفجر خططهم، لست جبانا ولا اخشى الموت. لقد حاصرنا المقرّبون الينا، على شواطئ نهر المبادئ، ويريدون اخراجنا من النهر. لقد لوثوا النهر بالأعشاب، ويريدون ان يتوسطوا النهر، ويوجهوا اشرعة الزوارق الى حيث يريد، من أراد موتنا. نحن خميرة المبادئ، وان انفجار الخميرة في العجين، حياة له. اشعال شمعة واحدة يبدد جيوش الظلام، انفجار لابد منه، على رفاق الامس، وهم اليوم الحاكم الناهي على نهر الحياة. انفجارنا على كل الموازين التي قدّسناها، والتفّت الافاعي عليها. فليس هناك احلى من الموت علاجا. وان دليلكم الوحيد على اتهامكم لي، هو بقائي حيا لحد الان. فلا اريد الحياة، واهلا بالموت. وانا الان استهزئ من الموت واعشقه، ولا وجود عندي للخوف والجبن، واحس انا الان اشجع الشجعان على الاطلاق. اخيف حتى الموت في عرينه، مرحبا ايها الموت، مرحبا. موتي إدانة لكم جميعا، قنبلة تعرّيكم، وتعّري خيانتكم لي، فأهلا بالموت، ومرحبا. سوف اموت، وابدأ الحديث مدفوناً فاذا لم استطيع ان احقق الحق بحياتي فسوف احققه بموتي.
(يأخذ السكين من امامه على المنضدة، ويدير ظهره الى الجمهور و يقطع شريان رسغ يده، ويصرخ).
يا خالد، آن اوان الانفجار، خالد جئتك، نعم، نعم، جئتك، جئتك يا خالد، جئتك يا حسين، جئتك يا مسيح.

ستار

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي