محاولات الفلسفة النهوض بالفكر الديني قديماً على يد أبن عربي وأخوان الصفاء، وكيف تطورت العلاقة المتبادلة بين الفلسفة والنص الديني قديماً الى علاقة متنافرة اليوم..!

عبدو اللهبي
2024 / 12 / 14

كانت السلطات السياسة في العالم الإسلامي العربي قديماً، تدرك قوة الفكر الصوفي وخطر فلسفته وتأثيره الكبير على الناس، لذلك حاولت احتوائه أو التحكم فيه.
كان التصوف في جوهره ينطوي على نزعة استقلالية، حيث كان يركز على العلاقة الشخصية مع الله بعيدًا عن
الأشكال المؤسسية،وتعزيز دور العقل، والإنفتاح أمام النص الديني، وهذا أثار حفيظة السلطات التي كانت تسعى إلى الحفاظ على سيطرتها على المؤسسات الدينية..
في مرحلة من التاريخ حين أتيح للفلسفة الحوار مع النص الديني، أنتجت تلك الحقبة فلسفة أبن عربي في تأويل النص، وأخوان الصفاء والسهروردي / أنتجت نصوص كانت تحاول بطبيعتها تعزيز دور العقل والإنفتاح مع الآخر وخلق فلسفة ثقافات مشتركة تعزز وعي الأفراد وحضورهم العقلاني ..

لقد حاولوا جميعهم الجمع بين العقل والفكر الفلسفي من جهة وبين الإيمان الديني من جهة أخرى. آمنوا أن العقل يمكن أن يكون أداة لفهم الدين بشكل أعمق، مما يعزز من توازن الروح والعقل في حياة الإنسان.

التفسير الرمزي والعميق في فلسفتهم، التي تتشارك في فهم أن النصوص الدينية ليست فقط للمعاني الظاهرة، بل يجب فهمها من خلال معان باطنية وروحية. ابن عربي خاصة قد ركز على تفسير القرآن بمعان رمزية كثيرة محاولة منه لإخراج النص من التفسير التقليدي الجامد، الى التأويل القابل لإظهار معان جديدة منفتحه وتتوافق مع متطلبات العصر والأفكار..

فابن عربي وإخوان الصفا، أكدوا على فكرة وحدة الوجود بين الإنسان والكون والله، حيث يعتبرون أن كل شيء في الوجود مترابط ويتناغم ضمن وحدة واحدة، وهي رؤية فلسفية تشجع على التفكر العميق في الحياة. ومحبة الكائنات..

كان جميع هؤلاء المفكرين يتفقون على أن الفهم الصحيح للدين يتطلب تطورًا روحيا وعقليا في نفس الوقت، فالفلسفة ليست منفصلة عن الدين، بل هي طريق لفهم أعمق للوجود والإيمان.

وقد كانت هذه الفلسفات تسعى لتقديم تفسير شامل للإنسان والمجتمع، حيث لا ينظر إلى العقل والدين كشيئين متناقضين بل كجزءين متكاملين للوصول إلى الحقيقة والمعرفة الكاملة..

حالة من الاغتراب والانفصال تحيط الدين والفلسفة في عصرنا الحالي تعود إلى مجموعة من العوامل التاريخية والاجتماعية والفكرية. هذا الانفصال يعكس أزمة مزدوجة: أزمة في فهم الدين كحركة روحية شاملة وأزمة في إدراك الفلسفة كأداة للتأمل الحر والتحليل النقدي.

أصبح الدين في كثير من الأحيان محصورًا في الممارسات الظاهرية والتفسيرات الحرفية للنصوص، مما أدى إلى تهميش البعد الروحي والفكري. هذا ساهم في تقديم الدين كمنظومة مغلقة تفتقر إلى الحوار مع الفلسفة والفكر النقدي.

منذ عصور الاستبداد، نُظر إلى الفلسفة كتهديد للسلطة السياسية والدينية، إذ إن الفلسفة تدعو إلى التساؤل الحر وإعادة النظر في المسلّمات، مما قد يقوض الأنظمة التي تعتمد على الجمود الفكري. لذلك، تم قمع المفكرين ومحاربتهم، وأصبح التفكير النقدي يُعتبر خطرًا.

أدى ذلك الى الصدام بين العلمانية والدين في العصور الحديثة وتقديمهما كمتضادين، بحيث أصبحت الفلسفة تُنسب للجانب العلماني، والدين محصورًا في المجال الشعائري والخاص، مما عمّق الانفصال بينهما..

التعليم الحالي في معظم المجتمعات لا يشجع التكامل بين المعرفة الروحية والمعرفة العقلية. يتم فصل العلوم الإنسانية والفلسفية عن الدراسات الدينية، مما يخلق أجيالاً لا ترى الرابط بين العقل والروح.

وفي العصر الحديث، الذي يركز على المادية والاستهلاك السريع، قلّل من أهمية التأمل والتساؤل الروحي، مما جعل الفلسفة تبدو غير عملية والدين يُفهم كإطار جامد بعيد عن الحياة اليومية.

ونتيجة لهذه العوامل مجتمعة أدت إلى حالة من الاغتراب الثقافي حيث لم يعد الإنسان المعاصر يرى الدين كمنظومة شاملة للتأمل والبحث الروحي، ولا الفلسفة كطريق للوصول إلى حقائق أعمق. والمطلوب اليوم هو إعادة إحياء هذا التكامل بين الفلسفة والدين، كما فعل ابن عربي والرومي وغيرهما، من خلال منهج يتبنى الحوار والتبادل بدلاً من الانفصال والعزلة...!

ولأجل إحداث نهضة فكرية حقيقية في العالم العربي، لا بد من تبني استراتيجية شاملة تعيد إحياء الروح النقدية، وتدمج بين الأصالة والتراث من جهة، والحداثة والانفتاح من جهة أخرى.

ومن بعض هذه الأمور هو تطوير المناهج: يجب أن تُعاد صياغة المناهج لتشمل الفلسفة، التفكير النقدي، والتاريخ الفكري للأمة بشكل يعزز التساؤل والتأمل.

تشجيع الحوار: توفير بيئة تعليمية تشجع النقاش المفتوح بين الطلاب والأساتذة حول قضايا دينية، فلسفية، واجتماعية دون قيود تعسفية.

دمج التراث بالعلوم الحديثة: تقديم شخصيات مثل ابن رشد، الكندي، وابن عربي كنماذج للمفكرين الذين استطاعوا التوفيق بين الدين والفلسفة والعلم.

التفسير المتجدد للنصوص: الانطلاق من منهجيات تفسيرية مرنة تتعامل مع النصوص الدينية في سياقها التاريخي مع احترام مقاصدها الشمولية.

قبول التعددية الفكرية: الإقرار بأن الدين يمكن أن يكون مساحة للحوار والانفتاح، وليس ساحة للجمود والتعصب.

و يجب إعادة إدخال الفلسفة كجزء أساسي من الثقافة العامة، بعيدًا عن النظرة السلبية الموروثة.

إحياء التراث الفلسفي العربي: نشر أعمال الفلاسفة المسلمين القدامى وترجمتها لتكون في متناول الشباب وتعريفهم بالثراء الفكري العربي.

تشجيع الإنتاج الفكري: توفير الدعم للمفكرين والمؤلفين لإنتاج أعمال فلسفية وعلمية معاصرة.

برامج ثقافية وتعليمية: إطلاق برامج حوارية تناقش قضايا الفكر والدين من زوايا متنوعة بعيدًا عن التطرف أو السطحية.

منصات رقمية للفكر الحر: دعم منصات على الإنترنت تُعنى بنشر الفكر التنويري، وجعلها تصل إلى الشباب بأساليب حديثة.

النقد البناء للحداثة: بدلاً من رفض الحداثة أو الانصهار التام فيها، يجب التعامل معها بوعي نقدي، والاستفادة من أدواتها العلمية والفكرية.

التوازن بين التراث والحداثة: تحقيق توازن بين الاعتزاز بالتراث والانفتاح على الأفكار الجديدة التي تخدم تطور المجتمع.

يُعد محمد عابد الجابري أحد أبرز المفكرين العرب الذين سعوا إلى تحقيق التوازن بين التراث والحداثة، إذ تناول قضايا الفكر العربي بمنهجية نقدية تحاول الجمع بين الأصالة والتجديد. في مشروعه الفكري، دعا الجابري إلى ضرورة إعادة قراءة التراث العربي والإسلامي بعقل نقدي منفتح، مع الأخذ بعين الاعتبار تحديات الحداثة.

إذاً أستنتجنا مما سبق أن النهضة الفكرية تحتاج إلى مشروع متكامل يتعامل مع الفكر والدين كحقلين متداخلين، ويهدف إلى بناء أجيال قادرة على التفكير النقدي، وإعادة صياغة العلاقة مع الذات والآخر. هذا يتطلب تعاوناً بين المؤسسات التعليمية، الثقافية، والإعلامية، إلى جانب إرادة سياسية تدعم التنوير والفكر الحر..!

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي