هل الأديب سياسي؟

علي دريوسي
2024 / 12 / 14

يُثار كثيرًا تساؤل حول العلاقة بين الأدب والسياسة، وهل يمكن اعتبار الأديب بالضرورة سياسيًا؟ الإجابة عن هذا السؤال تتطلب استعراض مفهوم الأديب، ودوره في المجتمع، وطبيعة العلاقة بين الأدب والسياسة، وتأثير الظروف التاريخية والاجتماعية في تشكيل هذا الدور.

الأديب هو الشخص الذي يمتلك موهبة الكتابة الأدبية، ويعبر من خلالها عن مشاعره وأفكاره وقضايا عصره. بينما تشير السياسة إلى إدارة الشؤون العامة واتخاذ القرارات التي تؤثر في حياة الأفراد والمجتمعات. على الرغم من اختلاف المجالين، فإن الأدب والسياسة يلتقيان في نقطة جوهرية: التأثير في الإنسان.

السياسة تسعى إلى تنظيم المجتمعات وإحداث التغيير عبر القرارات، بينما يسعى الأدب إلى التفاعل مع القضايا الإنسانية والاجتماعية عبر نصوص تحمل رسالة أو فكرة. ومن هنا، يمكن القول إن الأديب قد يكون سياسيًا عندما يستخدم قلمه للتعبير عن رؤى وأفكار تهدف إلى التأثير في وعي الأفراد ومواقفهم.

لعب الأدباء دورًا سياسيًا مهمًا في كثير من المجتمعات، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. فالعديد من الأدباء كانوا ناشطين سياسيين أو مؤثرين في الحركات السياسية عبر التاريخ. فمثلاً، كتب فيكتور هوجو في فرنسا عن الظلم الاجتماعي والطغيان في رواياته مثل البؤساء، مما جعله صوتًا للمحرومين وداعمًا للتحولات الاجتماعية والسياسية.

في العالم العربي، كان الأدباء دائمًا على تماس مباشر مع السياسة. استخدم أحمد شوقي الشعر في مقاومة الاستعمار، بينما كانت أعمال نجيب محفوظ تعكس التغيرات الاجتماعية والسياسية في مصر خلال القرن العشرين. الأدباء لم يكونوا مجرد مراقبين، بل كانوا فاعلين يسهمون في تشكيل الرأي العام.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يجب على الأديب أن يكون محايدًا أم منحازًا سياسيًا؟ الحياد قد يبدو خيارًا مريحًا، ولكنه قد يُفسر كتهرب من المسؤولية في أوقات الأزمات. بينما الانحياز يضع الأديب في مواجهة مباشرة مع السلطة أو القوى المناهضة لأفكاره، ما قد يعرضه للمخاطر.

هناك أدباء اختاروا الحياد، مثل خورخي لويس بورخيس الذي تجنب الانخراط في السياسة بشكل مباشر، بينما انحاز آخرون بقوة مثل محمود درويش، الذي كانت أشعاره صرخة في وجه الاحتلال الإسرائيلي.

في عصرنا الحالي، تزداد الضغوط على الأديب ليتخذ موقفًا واضحًا من القضايا السياسية الكبرى، مثل العدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان، والتغير المناخي. مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، باتت مواقف الأدباء تصل إلى جماهير أوسع، مما زاد من تأثيرهم السياسي. ومع ذلك، فإن هذا التأثير قد يكون سلاحًا ذا حدين، حيث يمكن أن يؤدي إلى التسييس المفرط للأدب على حساب قيمه الجمالية والفنية.

الأديب قد يكون سياسيًا، ليس بالضرورة من خلال الانخراط المباشر في العمل السياسي، بل عبر تأثيره في الوعي الجمعي ومواقفه من قضايا المجتمع. الأدب قادر على أن يكون أداة للتغيير السياسي والاجتماعي، سواء قصد الأديب ذلك أم لا. لكن تبقى الحرية في الاختيار هي ما يميز الأديب الحقيقي: الحرية في أن يكون سياسيًا أو غير سياسي، ملتزمًا أو محايدًا، وفقًا لرؤيته الشخصية وقناعاته.

السؤال إذن ليس: هل الأديب سياسي؟ بل: كيف يستخدم الأديب صوته، ولأي غرض؟

استخدام الأديب لصوته يتنوع حسب قناعاته وأهدافه وظروفه والأغراض التي قد يسعى إليها. إذ يُمكن للأديب أن يكون صوتًا موجهًا نحو أهداف متعددة، منها الاجتماعي، والسياسي، والثقافي، وحتى الشخصي.

الأديب كمرآة للمجتمع: الأديب يمكن أن يكون شاهدًا على عصره، يعكس هموم المجتمع وأوجاعه دون الانحياز لأي طرف سياسي أو أيديولوجي. في هذه الحالة، يستخدم صوته لتوثيق الواقع، كمرآة تعكس الصورة الحقيقية دون تزييف أو تضليل. مثال على ذلك ما قدمه نجيب محفوظ في أعماله التي تناولت التحولات الاجتماعية والسياسية في مصر، دون أن يقدم مواقف سياسية مباشرة.

الأديب كناقد سياسي: بعض الأدباء يوظفون كتاباتهم لانتقاد السياسات الجائرة أو الأنظمة الاستبدادية. صوت الأديب هنا يصبح أداة للتحدي والمواجهة، سواء كان ذلك بطريقة مباشرة عبر النصوص الصريحة، أو بطريقة غير مباشرة عبر الرمزية والمجاز. مثال على ذلك جورج أورويل في روايته 1984، حيث قدم نقدًا لاذعًا للديكتاتورية والشمولية.

الأديب كداعٍ للإصلاح: قد يستخدم الأديب صوته لدعوة المجتمع إلى التغيير والإصلاح. في هذه الحالة، تصبح كتاباته محفزًا للتفكير والعمل، حيث يوجه رسائل تهدف إلى رفع وعي الأفراد وتشجيعهم على اتخاذ مواقف فعالة. مثال على ذلك طه حسين، الذي دعا في كتاباته إلى إصلاح التعليم والانفتاح الثقافي.

الأديب كمدافع عن القيم الإنسانية: القيم الإنسانية مثل الحرية، والعدالة، والمساواة، والسلام، تجد في الأدباء مناصرين مخلصين. الأديب هنا يتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة ليصبح صوتًا عالميًا يدافع عن حقوق الإنسان، كما فعل محمود درويش الذي جعل من قضيته الفلسطينية رمزًا عالميًا للنضال من أجل العدالة والحرية.

الأديب كفنان مستقل: بعض الأدباء يختارون أن يكونوا بعيدين عن أي التزام اجتماعي أو سياسي مباشر، مركزين على جماليات الأدب كفن بحد ذاته. في هذه الحالة، يصبح الصوت الأدبي وسيلة للتعبير عن الذات والبحث عن المعنى الفردي للحياة. هنا نرى أدباء مثل فرانز كافكا، الذي لم تكن أعماله سياسية بوضوح، لكنها عبرت عن الاغتراب والإنسانية بطرق عميقة.

الأديب كمناضل أو ناشط: بعض الأدباء يتخذون مواقف حادة وصريحة، ويستخدمون كتاباتهم كمنصة للنضال السياسي. هذا النوع من الأدباء يندمج تمامًا في قضايا عصره، ويجعل من الأدب سلاحًا. مثال على ذلك بيرتولت بريشت، الذي كتب مسرحيات تدعو للثورة والعدالة الاجتماعية.

الغرض الأساسي الذي يحدده الأديب لصوته يتوقف على:
رؤيته الشخصية للعالم: هل يرى الأدب كوسيلة لتغيير العالم أم مجرد أداة للتأمل؟
الظروف المحيطة به: هل يعيش في مجتمع مضطرب سياسيًا أم مستقر؟
موقفه من القضايا الكبرى: هل يرى أن عليه مسؤولية أخلاقية تجاه مجتمعه؟

قد يكون الغرض تقديم تجربة جمالية خالصة، أو مواجهة الظلم، أو استكشاف الذات، أو إشعال وعي جديد لدى الناس. في النهاية، الأديب الذي يستخدم صوته بصدق، بغض النظر عن الغرض، يحقق تأثيرًا يجعل أدبه خالدًا وقادرًا على التواصل مع أجيال متعاقبة. كل صوت أدبي هو محاولة لفهم العالم أو تغييره، أو ربما مجرد استكشاف جماله وتعقيده.

استخدام الأديب صوته بصدق يتطلب توافقًا بين ما يؤمن به داخليًا وما يعبر عنه في كتاباته، بعيدًا عن النفاق أو المسايرة لمصالح شخصية أو ضغوط خارجية. يُعبر الأديب الصادق عن رؤاه بحرية وشجاعة، ملتزمًا بنقل الحقيقة أو تصوير المشاعر بعمق وأصالة. فيما يلي أبرز الطرق التي يستخدم بها الأديب صوته بصدق:

الالتزام بالقيم الشخصية: الصدق الأدبي يبدأ من داخل الأديب. يجب أن تكون كتاباته امتدادًا لمعتقداته وقيمه، لا مجرد محاولة لإرضاء جمهور معين أو الانسجام مع تيارات فكرية سائدة. الأديب الصادق يكتب من منطلق قناعاته، حتى لو كانت آراؤه غير شائعة أو قد تواجه بالرفض. مثال: محمود درويش كتب عن قضيته الفلسطينية بحب وألم دون محاولة تجميل الواقع، معبرًا بصدق عن معاناة شعبه وآماله.

تجنب التزييف والتبعية: الكاتب الصادق لا يتبع ما يمليه السوق الأدبي أو السلطة السياسية، بل يرفض أن يكون صوته مجرد صدى لأفكار الغير. بدلاً من ذلك، يكتب بحرية عن قضايا تهمه شخصيًا ويشعر بأهميتها. مثال: الأديب الروسي ألكسندر سولجنتسين، في أرخبيل غولاغ، كشف جرائم النظام السوفييتي رغم المخاطر الشخصية، لأنه شعر بالالتزام الأخلاقي تجاه الحقيقة.

التعبير عن التجربة الإنسانية بواقعية: الصدق الأدبي يظهر في قدرة الأديب على تصوير التجربة الإنسانية بتفاصيلها المعقدة، دون مبالغة أو اختزال. الصدق هنا يعني أن يكتب عن الحياة كما هي، بحلوها ومرّها، دون تهرب من الألم أو تجميل للواقع. مثال: فيرجينيا وولف، في أعمالها مثل غرفة تخص المرء وحده، استخدمت صوتها للتعبير عن مشاعرها وتجاربها الداخلية بصدق وإبداع، دون محاولة مجاراة أساليب الكتابة التقليدية.

الشجاعة في مواجهة القضايا الشائكة: الصدق يتطلب من الأديب الجرأة على قول ما يجب قوله، حتى لو كان ذلك يعرضه للنقد أو الخطر. الأديب الصادق لا يخشى مواجهة القضايا المحرجة أو المحظورة، بل يعتبر الأدب منبرًا للحقيقة. مثال: نجيب محفوظ تعرض لانتقادات شديدة بسبب روايته أولاد حارتنا، لكنه ظل متمسكًا بآرائه ولم يتراجع عن التعبير عن رؤيته الفكرية.

التفاعل مع القارئ بصدق: الأديب الصادق يكتب بنية التواصل الحقيقي مع القارئ، وليس للتلاعب بعواطفه أو التأثير عليه بشكل مصطنع. كتاباته تكون موجهة لإثارة التفكير أو المشاركة في تجربة إنسانية، وليس لتحقيق شهرة زائفة أو مكاسب مادية. مثال: أنطون تشيخوف كان يكتب قصصًا تعبر عن الإنسان في أدق حالاته، مقدمًا شخصيات وأحداثًا حقيقية يمكن للقارئ أن يراها كمرآة لنفسه.

التعمق في الذات: الصدق الأدبي يتطلب مواجهة الأديب لنفسه بجرأة. عندما يكتب عن مشاعره وتجربته الذاتية، يفعل ذلك بشفافية، حتى لو كان ذلك يتطلب منه الكشف عن نقاط ضعفه أو أخطائه. مثال: في مذكراته، كتب جان جاك روسو عن حياته وأخطائه بوضوح شديد، مما أعطى كتاباته قيمة فريدة لأنها لم تحاول إخفاء عيوبه.

كيف يتحقق الصدق عمليًا؟
تجنب الكتابة وفق القوالب الجاهزة: الأديب الصادق يبتكر صوته الخاص ولا يكرر أساليب الآخرين.
البحث العميق قبل الكتابة: سواء كانت القضية شخصية أو عامة، البحث يعزز الصدق ويمنح الكتابة مصداقية.
الاهتمام بالجودة الأدبية: الصدق لا يعني الارتجال، بل يتطلب اهتمامًا بصقل النصوص لتصل إلى القارئ بجمالها الكامل.
الالتزام بالمبادئ حتى تحت الضغط: الأديب الصادق يرفض التنازل عن قناعاته مقابل الشهرة أو السلامة.

الخلاصة
الصدق الأدبي هو جوهر الإبداع، وهو ما يجعل النصوص تعيش عبر الزمن. عندما يستخدم الأديب صوته بصدق، فإنه يقدم شيئًا حقيقيًا، يحمل تجربة إنسانية صادقة تلهم القارئ وتؤثر فيه بعمق. الصدق هو ما يجعل الأدب أكثر من مجرد كلمات؛ إنه نافذة على النفس والعالم.
والله ولي التوفيق

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي