![]() |
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
![]() |
خيارات وادوات |
عبدو اللهبي
2024 / 12 / 10
في صباح يوم رمادي، استيقظت مريم على سماع أصوات الزغاريد ،وصيحات الناس في الشوارع، سألت إبنتها عن سبب هذه الزغاريد..؟!
أجابتها البنت بحرقة والدموع تهرول من عينيها، لقد هرب بشار الأسد ياأمي..
كأن كهرباء قد صعقت الوالدة مريم، من صدمة المفاجأة، كان يدور في رأسها صراع بين الأيمان بحقيقة أن الديكتاتور جاثم على قلوبنا حتى المممات وبين حقيقة أنه قد هرب فعلاً..
وقفت دقيقة وصاحت بصوت موجوع..(أبني محمود)..
وضعت رداء على رأسها وخرجت الشارع مسرعة بإتجاه سجن(صيدنايا)
كانت تسأل الناس بالشارع وهي مذهولة ومصدومة عن ماالذي حدث، وتتلقى الإجابةت من جميع الإتجاهات..( المجرم هرب، سوريا حرة، )
كانت تركض وهي تبكي وتمسك بيدها الاخرى غطاء رأسها حتى لايسقط..
وصلت الى موقع السجن ووجدت حشوداً مهولة من الناس، منهم من يبحث عن أقاربه المفقودين ومنهم رجال متعاونين، واخرون رجال مسلحين، وأطفال صغار مع أهاليهم..
وقفت بجانب بوابة السجن، يلفها البرد ويتآكلها الألم. وكانت تحمل في يدها صورة قديمة لابنها محمود، الذي كان في العشرين من عمره عندما اعتقل. مرّت سنوات منذ ذلك اليوم المشؤوم، وكل ما تبقى لها هو أمل ضئيل ورائحة ذكريات ابنها العالقة في أنفاسها.
الجدران العالية المتهالكة للسجن أصبحت شاهدة على محاولات الأهالي المحمومة. كانوا يحفرون الجدران بأيديهم العارية وأدواتهم البدائية، يملؤهم العزم لتحرير أحبائهم. صوت المعاول يختلط بالدموع، وأصوات النداء على الأسماء ترتفع من حين لآخر.
لكن مريم لم تكن تشارك في الحفر. كانت تقف هناك، بجسد منهك وعينين غارقتين في دموع لا تنقطع. كل ما تريده هو إجابة واحدة: "هل محمود لا يزال على قيد الحياة؟"
لم تعد تخشى النظام، ولا يهمها من سيحكم البلاد. لم تعد تكترث بما يجري في السياسة، فكل عالمها تقلّص إلى سؤال واحد يدور في ذهنها: أين محمود؟
مرت الساعات بطيئة كأنها دهور. اقترب منها رجل يحمل قائمة بأسماء المساجين الذين أطلق سراحهم. ألقت نظرة سريعة على الورقة، لكن اسم محمود لم يكن هناك.
"لا تقلقي يا أمي، ربما في دفعة أخرى"، قال لها الرجل محاولًا مواساتها. لكنها لم تجب.
حلّ الليل، والجدران لا تزال تُحفر، والناس لا يزالون يصيحون. وقفت مريم بجانب الجدار وأغمضت عينيها، متضرعة إلى الله أن تراه مرة أخرى، حتى لو لثانية واحدة فقط.
في لحظة من الصمت، سُمع صوت قوي من داخل السجن، وصاح أحدهم: "وجدناهم! هناك نفق يؤدي إلى الزنزانات!"
اندفع الناس بجنون نحو الحفرة الصغيرة التي بدأت تتسع. كان الجميع يبحث عن أحبائهم، ومريم بين الجموع تصرخ:
"محمود! يا بني! هل تسمعني؟"
ثم، وسط الزحام والضجيج، ظهر شاب نحيل الوجه، شاحب العينين، لكنه كان حيًا. كانت خطواته متثاقلة، وعيناه تبحثان عن شيء مألوف. وعندما التقت عيناه بعيني أمه، تجمد الزمن.
ركضت مريم نحوه واحتضنته بقوة وكأنها تخشى أن يضيع مرة أخرى. بكت بدموع الفرح والألم، وهمست في أذنه: " أنت أبني محمود أليس كذالك، أنا أمك مريم"؛
"الحمد لله يا بني، كنت أعلم أنك ستعود."
لم يجب محمود بكلمة لقد كان مذهولاً ولايستطيع الحديث.
في تلك اللحظة، عرفت أن أبنها قد أصيب بصدمة ولايستطيع الحديث من كثرة التعذيب، كانت كل حدود الزمان والمكان تتلاشى، كأن العالم قرر أن يتنحى جانباً أمام قدسية المشهد. تحطمت قيود الزمن، وانكسرت قضبان السجون التي حاصرت الأرواح. لم يبقَ سوى لقاء طال انتظاره، لقاء جمع بين قلب أم أنهكته السنين وصوت ابن أحيته الآهات.
أحتضنته بقوة، وكأنها تحاول أن تزرع فيه نبضات عمرها الضائع، وأن تنفض عنه غبار الغياب. غمرت دموعها ملامحه الشاحبة، فاختلطت دموع الفرح بشظايا الألم. في عينيها، كان يقين لا يتزعزع، يقين أم لم ينكسر أمام محن الدهر. وفي عينيه، ارتعاشات من عبروا على حافة الفناء ليعودوا إلى الحياة.
تعلقت شفتيها بآهات مرتعشة، وهمست بصوت مفعم بالحب والدموع: "عدت إلي يا بني... وكأن الحياة عادت إلي من جديد."
في تلك اللحظة، توقف العالم عن الحركة احتراماً لمعجزة اللقاء. صمت كل شيء، إلا أنفاسهما المتلاحقة التي حملت معاني الانتصار. انتصر الحب على كل أشكال القهر، والأنظمة السياسية.
في تلك اللحظة، انهارت الجدران في قلبها قبل أن تنهار حولها، لم يبقَ سجن ولا زمن، فقط أمٌ تحتضن بقايا ابنٍ عاد من موتٍ مؤجل، ودموعها تحكي وجع سنواتٍ لا تُختصر..!!؛
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |