جمال عبد الناصر .. والناصريون : أين الاختلاف ؟!

أحمد فاروق عباس
2024 / 11 / 29

جمال عبد الناصر رجل دولة مصري ، فهم معني وأهمية موقع ومكان مصر وحاول - في ظروف عصره - ان يصل بأهمية الموقع والمكان الي عظم المكانة ..
وكحال كل رجال السياسة أصاب الرجل حينا وأخطأ حينا آخر ..

ولكنه كان رجل دولة بمعني الكلمة ، ومعني مصطلح رجل دولة هو ذلك الرجل المسئول عن دولة وشعب ، والذي فهم طبيعة وحدود بلاده ، وادار علاقاتها مع العالم في ضوء ذلك الفهم ، وإن ساعدته ظروف عصره - الصراع بين كتلتين - علي حرية الحركة ..
وباستثناء خطأ واحد كبير ادار جمال عبد الناصر حركة مصر في عالمها بذكاء ومقدرة كبيرين ..

وننزل من الكلام النظري الي الواقع التطبيقي ..
ونقارن بين ما فكر فيه جمال عبد الناصر بالأمس ، وما يفكر فيه ويفعله الناصريون - اتباعه - اليوم ..

وبما ان القضية الاهم التي تشغل بال الجميع منذ سنة هي قضية غزة وجنوب لبنان فسوف ندرس رأي وفعل عبد الناصر في قضية فلسطين واسرائيل ، ونري رأي الناصريين اليوم في نفس القضية ..

فالناصريين اليوم هم الاكثر حماسة والأعلي صوتا - وبلا تحوط او تدبر - لما يحدث في غزة وفي جنوب لبنان ..

حماسة وعلو صوت يبدو احيانا انه اعلي من حماسة وصوت انصار تيار الاسلام السياسي .. وهو موقف غريب ، ولم يأخذ ما يستحق من النظر والتفكير ..

لقد كان لعبد الناصر رأيه الواضح في قضية فلسطين ، وقاله أكثر من مرة ، ونقله عنه كثير من المحيطين به ، وخلاصته ان اسرائيل قضية مطروحة علي المستقبل العربي وليس علي الحاضر ، وأن الصراع بيننا وبينها صراع حضاري في المقام الأول ... لابد فيه من تجميع أسباب القوة العربية أولا وقبل أخذ أي خطوة حاسمة تجاه ذلك المشروع الغربي في منطقتنا ... المسمي اسرائيل ..

ونلاحظ أن عبد الناصر لم يأخذ موقفا فعليا من اسرائيل في هجومها علي غزة - وكانت وقتها تحت السيادة المصرية - في فبراير ١٩٥٥ ، عندما هجمت علي الجيش المصري المعسكر فيها ، وقتلت عددا من الجنود المصريين ..

ولم يكن عدم رد عبد الناصر خوفا او جبنا ، بل لم تكن مصر قد استعدت وقتها لحرب مع اسرائيل .. فرأي تفويت الفرصة علي اسرائيل - وعلي من دفع اسرائيل لذلك الفعل - وعدم اعطاءها نصر سهلا ..

ونلاحظ أكثر من ذلك ان الحدود المصرية الاسرائيلية طوال الجزء الأكبر من فترة حكم جمال عبد الناصر ظلت هادئة ، وذلك في الفترة من ١٩٥٤ الي ١٩٦٧ أي طوال ١٣ سنة ، اعتدت فيها اسرائيل علي غزة - الواقعة تحت الحكم المصري - في فبراير ١٩٥٥ ، ثم اعتدت علي الأرض والدولة المصرية في أواخر أكتوبر ١٩٥٦ واحتلت سيناء كلها .. فيما عرف بالعدوان الثلاثي مع بريطانيا وفرنسا ..

لم يهاجم عبد الناصر اسرائيل مثلا بعد عدوانها علي غزة عام ١٩٥٥ ، أو بعد ١٩٥٦ ردا علي عدوانها علي مصر ، وظلت الامور هادئة بعدها احدي عشر سنة كاملة ... وحتي يونيو ١٩٦٧ ..

وحتي عندما بدأت اسرائيل سنة ١٩٦٣ في تحويل مجري نهر الأردن اجتمعت الدول العربية أكثر من مرة في مؤتمرات سياسية وفي اجتماعات عسكرية وأخذت قرارات لم تستطع تنفيذها ..

وفي تلك الفترة كان عبد الناصر دائم الهجوم علي حزب البعث السوري ونزعته المغامرة في الصراع العربي الاسرائيلي ، وما عرف وقتها بحرب التوريط ، وهو ما حدث فعلا في يونيو ١٩٦٧ ..

ومن يراجع خطب جمال عبد الناصر اعوام ١٩٦٤ - ١٩٦٥ - ١٩٦٦ وهي متاحة بسهولة علي الانترنت صوتا وصورة وكتابة - اقله في الموقع الرسمي لجمال عبد الناصر - سوف يجد تحذيرات متتالية من حرب بين العرب واسرائيل لم يأت اوانها بعد ..

وفي تلك السنين كان عبد الناصر دائم الانتقاد لقادة حزب البعث في سوريا الذين رفعوا لواء الحرب الان وفورا مع اسرائيل ... ومهما تكن العواقب !!

ولأنه لا يغني حذر من قدر .. استجاب الرجل الذي طالما حذر بنفسه من فخ الحرب مع اسرائيل قبل أوانها لاستفزاز قادة حزب البعث السوري المغامرين وقادة بعض المنظمات الفلسطينية وبعض الصحف ذات الارتباطات التي عليها ألف علامة استفهام في بيروت .. وذهب برجله الي الفخ المعد له بإحكام !!

لم تهجم مصر علي اسرائيل اولا عام ١٩٦٧ ، وكانت اسرائيل هي من بدأت الحرب ، وكانت نظرة عبد الناصر انها أشبه بمظاهرة عسكرية تخيف اسرائيل ليس أكثر ، فالقوة الرئيسية المقاتلة والمدربة من الجيش المصري تقاتل في اليمن ، وبالمناورات الشهيرة للولايات المتحدة ايامها كان الموقف امام صانع القرار السياسي والعسكري المصري ضبابيا وغامضا في كثير من جوانبه !!

وكان الفخ الشهير لعبد الناصر ، والذي انتهي باحتلال اسرائيل - بمساعدة أمريكية اوربية كبيرة - لسيناء كلها من مصر ، وهضبة الجولان من سوريا ، والضفة الغربية بما فيها القدس من الاردن ...

وطوال ثلاث سنوات حاول عبد الناصر بمجهود هائل ويستحق الاحترام اعادة بناء الجيش المصري ، والاستعداد لجولة أخري مع اسرائيل..

وكان ذلك منطقيا .. فالرجل جزء من ارض بلاده محتلا ، والاسوأ انه تم فقده في عصره ، واعترف الرجل بشجاعة عن مسئوليته عن ذلك ..

وبدء في عام ١٩٦٩ ولمدة عام مناوشات أخذت ترتفع شدتها ، وهي ما عرفت بحرب الاستنزاف، حتي قبول عبد الناصر مبادرة وزير الخارجية الامريكي روجرز في يوليو ١٩٧٠ وتم وقف اطلاق النار تمهيدا لبناء حائط الصواريخ المصري ..

ثم انتقل الرجل الي رحاب ربه بعد شهرين... في أواخر سبتمبر ١٩٧٠ ..

وكان اختيار عبد الناصر لخليفته دالا ومعبرا عن طبيعة نظرته .. فقد اختار - وقبل وفاته بسنة كاملة - أنور السادات كخليفة له ، وهو معروف بميوله الي تسوية ما للصراع العربي الاسرائيلي ..

اما اليوم .. فما هو موقف الناصريون من الصراع العربي الاسرائيلي ؟!!

الناصريون اختاروا الصدام والحرب في المطلق مع اسرائيل ، وهو غير ما فكر فيه عبد الناصر وفعله طوال الجزء الاكبر من تجربته ..

اختاروا اسوأ ما في عبد الناصر .. وهو استجابته لفخ توريطه في حرب قبل اوانها ، وتشترك فيها بجانب اسرائيل دول الغرب المتقدمة ..

تركوا عبد الناصر الحذر ، واختاروا عبد الناصر المتحمس بلا أرض صلبة يقف عليها ..

نسوا عبد الناصر العاقل ، الذي يحسب حساباته بعقل بارد وانحازوا الي عبد الناصر المنفعل ، الذي اخطأ خطأ عمره بفعل اعترف هو بمسئوليته عنه وعرض تنحيه عن الحكم بسببه ، والذي أخذ كثيرا جدا من بريق تجربته القيمة ..

وتكتمل حلقة اختلاف الناصريين عن عبد الناصر في سلسلة من الخطوات :
١ - أن الناصريون تحالفوا مع نقيضهم السياسي والاقتصادي والايديولوجي ، وهو تيار الاسلام السياسي بشقيه السني - حماس والاخوان - او الشيعي .. وهم انصار حكم رجال الدين الايرانيين ..

٢ - لم يوافق جمال عبد الناصر كرجل دولة وفي اي مرحلة من الثماني عشرة سنة التي كانت له الكلمة العليا في مصر ان يجعل من الارض المصرية مكانا او موطئ قدم لمجموعات او فصائل او مليشيات او حركات مقاومة ..

وحتي عندنا طلب منه الفلسطنيون ذلك رفض تماما ، كما لم يؤمن بأي دور لتلك التنظيمات حتي في سوريا او لبنان ، وكان رأيه ان الجيوش - وليس المليشيات المسلحة او الفصائل - هي صاحبة الدور الطبيعي في الوقوف امام اسرائيل ..

وهو بطبيعة دراسته الحربية فهم ان تلك المنظمات او الحركات المسلحة اقصي ما تستطيع فعله هو عملها كعنصر ازعاج لاسرائيل ، لكن تحرير الارض العربية اعلي من قدراتها بكثير ..

وكان رأيه ان منظمة التحرير الفلسطنية يمكنها ان تسمع صوتها للعالم من فلسطين ذاتها وليس انطلاقا من دولة أخري .. مصر او الاردن او سوريا او لبنان ...

يمكن ان تحارب فصائل فلسطينية تحت قيادة وسلطة الجيش المصري ، ولكن ليس بمفردها وبعيدا عن القرار السياسي والعسكري للدولة المصرية .

وحتي مع ضعف الجيش اللبناني - ايامه وحتي الان - لم يفكر في فتح جبهة لبنان بواسطة تنظيمات او حركات مقاومة ، مع ان لبنان بقي طوال حياة عبد الناصر بعيدا عن الصراع العربي الاسرائيلي ..

كان تفكيره ان ذلك الاسلوب ينفع داخل فلسطين المحتلة ذاتها وفقط ، ففلسطين لم تصبح دولة بعد وليس لها جيش ، فصيغة حركات المقاومة المسلحة تصح في هذه الحالة المحددة ..

نسي الناصريون بعد عبد الناصر تلك الدروس ، ولم يجدوا ما يشين في سياسة ايران في الشرق العربي والتي تقاوم اسرائيل - كما تقول وان كان علي ذلك شكوك ليست هينة - بواسطة تنظيمات ومليشيات احتكرت سلطة القرار في بلادها وألغت الدولة عمليا ، واصبحت دول داخل الدول ، حدث ذلك في لبنان وفي العراق وفي اليمن ..

ولا أحد يعرف لماذا لا تسلح ايران او تساعد " الدول " العربية ، بينما تصر علي بناء تنظيمات تكون دولة داخل الدولة وتقوم بتسليحها !!

لماذا لا تساعد " الدولة " السورية - وهي صديقتها الاقرب - علي تحرير الجولان المحتل ، بدلا من ان تبني لها مليشيا مسلحة في لبنان !!!

وإيران لا تسلح الجيش اللبناني ... ولكن تسلح حزب الله في لبنان !!
وإيران لا تسلح الجيش العراقي ... ولكن تسلح الحشد الشعبي في العراق وحزب الله العراقي !!
وايران لا تسلح الدولة او الجيش في اليمن ... ولكن تسلح جماعة الحوثي في اليمن ..

لقد درس جمال عبد الناصر التاريخ العام والتاريخ العسكري في الكلية الحربية ، ودرس علوم الاستراتيجية كطالب ودرسَّها كمعلم في كلية أركان الحرب ، وإن اخطأ في سنة ١٩٦٧ ونسي تلك الدروس فهو خطأ في الحسابات والتقديرات ، ولم يكن نوع من المغامرة او المقامرة ليس وراءها هدف او غاية ، وإن ظل تفكيره في مجمله في موضوع الصراع العربي الاسرائيلي صحيحا ..

ولكن اتباعه من الناصريين لم يملك أغلبهم ذلك العقل الكبير ولا تلك الرؤية العاقلة والثاقبة ، ومشي كثيرون منهم وراء اراء ومشاريع ليس للعرب ودولهم ولا لقضية فلسطين فائدة من ورائها ..

وهو عموما درس متكرر في التاريخ ، فلم يكن الماركسيون في عظمة كارل ماركس ، الذي قضي عمره كله باحثا وكاتبا ومفكرا ولم يتوقف يوما عن الدرس والتعلم ..
ولم يكن الديجوليون في فرنسا في نفس عقل وقامة شارل ديجول ..

فرق كبير بين زعيم كبير وبين انصاره ...
وكذلك بالمثل .. هناك فرق شاسع بين عبد الناصر .. وبين أغلب الناصريين ..

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي