|
|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |

أكرم شلغين
2024 / 11 / 28
ربما صموئيل بيكيت، الكاتب الأيرلندي الشهير، هو الأكثر جدلاً بين كتاب القرن العشرين وحتى أيامنا هذه. والملفت أن شخوصه، التي اعتبرها كثير من النقاد (وأولهم مارتين إيسلين) عبثية ولا علاقة لها بالواقع، يعتبرها بعضهم الآخر أصدق تعبير عن حالنا نحن البشر، في عجزنا عن فهم كل شيء حولنا بل وحتى في فهم أنفسنا. لننسَ انتظار جودو الذي لا نهاية له إلا المزيد من الانتظار، لننسَ الشجرة العارية التي تنبت بضع وريقات هي أشبه بما يعبر عنه القول التشيكي: "زهرة لا تصنع ربيعًا وبضع وريقات لا تجعل شجرته خضراء"، ولننسَ وجودية كل ما بها من غموض معنى، ولننسَ جدلية "وحدة وصراع الأضداد" والمعادلة الهيجلية حول علاقة العبد بالسيد، ولننسَ الكثير مما يلفت نظر النقاد في بيكيت ولنعرج على...
... مسرحيته لست أنا (Not I). تتميز هذه المسرحية بتجربة فريدة وغير تقليدية عبر إظهار فم فقط يتحدث بسرعة محمومة وسط ظلام كامل، تاركًا الجمهور في حالة من التوتر والاضطراب. يكمن الغموض في هذه المسرحية في الصوت غير المسموع الذي يتردد داخل عقل المتحدثة، وفي الإنكار المستمر الذي يتكرر بعبارة "ليس أنا". تقول الشخصية:
"لا! ليس أنا! لا أستطيع أن أكون أنا!"
هذا الإنكار الذي يبدو في ظاهره شخصيًا يعبر عن أزمة أعمق: الإنسان في صراعه مع الهوية والذنب والخوف من الاعتراف بالذات. من خلال هذا الأسلوب المسرحي الفريد، يمكن إسقاط هذا الصراع على حياتنا نحن البشر. أحيانًا نلجأ إلى الإنكار كوسيلة لحماية أنفسنا من الألم أو الحقيقة، لكن الصوت الداخلي يستمر في كشف تلك الحقائق التي نحاول جاهدين قمعها. الفم المتحدث وحده في ظلام المسرح يبدو وكأنه انعكاس لصوتنا الداخلي، ذلك الذي نخاف أن نواجهه ولكنه لا يكف عن البوح.
أما في مسرحية Act Without Words II، نجد صورة مجازية عميقة عن كفاح الإنسان المستمر ضد قوى العبثية. أحد أبرز المشاهد هو محاولة شخصية صعود منحدر باستخدام دراجة بعجلة واحدة، وهو تصوير عبثي لجهد إنساني يبدو بلا جدوى. في هذا العمل، الشخصيات لا تتحدث ولكنها تتحرك ضمن روتين متكرر يُبرز حالة الجمود والقيود المفروضة. الشخصية التي تحاول الصعود تكرر المحاولة رغم الفشل المستمر، وكأنها تعبر عن رغبة الإنسان في مواجهة المستحيل، تلك الرغبة التي تلخصها الفلسفة الوجودية بصراعها مع عبثية الحياة. المشهد يعكس مقولة بيكيت الشهيرة:
"حاول مرة أخرى، افشل مرة أخرى، افشل بشكل أفضل" (Fail again. Fail better.).
هنا، يصبح السعي نفسه هدفًا، حيث يظهر الإصرار على المحاولة وكأنه تعبير عن رفض الإنسان الاستسلام رغم كل المعوقات، سواء كانت خارجية أم داخلية. هذا المشهد يمكن أن يُقرأ كتشبيه بصراعنا اليومي، ذلك الجهد الذي نبذله لنتقدم خطوة واحدة نحو الأمام، رغم أن العالم يعيدنا للخلف.
أما عن الشخصيات المدفونة نصفها تحت الأرض، كما هو الحال في مسرحيات مثل Happy Days (أيام سعيدة) وPlay (مسرحية) وEndgame (نهاية اللعبة)، فهي تصوير مكثف لحالة من التوقف والجمود الوجودي. في أيام سعيدة، نجد ويني التي تقول بابتسامة رغم دفنها حتى خصرها:
"يا له من يوم سعيد، رغم كل شيء!"
إنها تمثل الإصرار على الأمل والتشبث بمعنى الحياة حتى في أحلك الظروف. بالمقابل، الشخصيات في Play، المدفونة حتى أعناقها، تتحدث في حوار محموم عن ذكريات تعكس الخيانة والغيرة والندم، وكأنها سجينة داخل عوالمها الخاصة. بينما في نهاية اللعبة، نجد كلوف ووالده هام في حالة من الجمود داخل غرفة مقفرة أشبه بالقبر، وكأنهما ينتظران النهاية المحتومة دون أمل في التغيير.
هذه الشخصيات، العالقة بين الحياة والموت، تعكس وجودًا نصف مكتمل. إنهم أحياء جسديًا، ولكنهم مدفونون نفسيًا وفكريًا، وكأنهم يذكروننا بأننا نحن أيضًا قد نعيش في حالة وسط، حيث نواجه قيودًا مفروضة علينا، سواء كانت تلك القيود نابعة من المجتمع أم من أنفسنا.
من خلال هذه الأعمال، يقدم بيكيت مسرحًا يعكس هشاشة الوجود الإنساني وصراعه المستمر مع الغموض والعبثية. إنه لا يقدم حلولًا، بل يجعلنا نتأمل في قلقنا الوجودي وفي قدرتنا على التحمل. إن أعماله، بما تحمله من صور عبثية وأصوات مترددة وشخصيات عالقة، ليست مجرد مسرحيات، بل هي دعوة لفهم أعمق لطبيعتنا البشرية بكل تناقضاتها.
|
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |