|
|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |

ثائر ابو رغيف
2024 / 11 / 22
روجات المشرح
قيظُ البصرةِ المُثقلُ بِهباتِ ألخليجِ المترعة بزفيرٍ كريه دأب الناس على تسميته بالشرجي (الرياح الشرقية رغم كونها بالحقيقة جنوبية قادمة من ألخليج جنوب البصرة) يخنق الشوارع ويسوق مثل رعاة الخراف خطى العابرين الى فيءٍ وبردٍ ما, تموت الحركة في الاسواق وتغلق المحلات ليأخذ اصحابها قليولة الظهيرة في بيوتهم التي نادرا ماكانت تبعد عن اماكن عملهم. يعودون بعد إنحدار ألشمس تجاه ألمغرب وحلول إنخفاظ ألحرارة ليرشوا واجهة دكانينهم بالماء وتستطيع عندها أن ترى وتشم أعمدة ألبخار تتصاعد من الأسفلت ألمشوي بنار جهنم
قيظ البصرةِ لم يترك مثل هذه الخيارات للجنود المتواجدين في ذلك القحل المسمى شرق البصرة , فما يسمى بشرقِ ألبصرة أثناء ألحرب ألعراقية الإيرانية كانت منطقة قاحلة تمتد على ألحدود بين إيران وألعراق إلى أن تلتقي بالحدود مع إيران في محافظة ألعمارة. كنت في أللواء ألمدرع 55 كعريف في قسم المخابرة (عامل بدالة) ومن ضمن واجباتي تصليح ألخطوط ألتي يتم قطعها بسبب ألقصف الإيراني بل وحتى ألدخول في أرض ألحرام لتصليح ألخطوط ألتي تصل لهناك.
لتفسير أرض ألحرام لبقية ألقراء ممن لم يعلموها, هي تلك الأرض الواقعة بين جانبين متحاربين وفي مكاني حيث قضيت معظم خدمتي أنشأ ألجانبان ألعراقي والإيراني ساترين ترابيين يمتدان على طول الجبهة كخطين متوازيين من أكيسة ألتراب ألمضغوط (لإعطاءه صلابة بحيث لا تخترقه ألشظايا والرصاصات). أرض ألحرام هذه تمتد لمسافات تقع بين ألكيلومتر ألواحد إلى ثلاثة, ولسبب لوجستي أو أمني قررت قيادة اللواء بتكوين نقطة تنصت امام الساتر الأمامي للفوج الأول تتكون من ضابط وبضعة جنود, تقع في منتصف أرض ألحرام في موضع تحت سطح الأرض بمتر أو أكثر, واجب هذه ألنقطة الإتصال ألفوري بمقر أللواء إذا سمعوا حركة شاحنات إيرانية أو دبابات أو مجاميع من ألأفراد متوجهة نحو جانبنا في شرق ألبصرة. في كل ليلة يتبدل طاقم ألمجموعة بسبب خطورة موقعهم. ولإنهم لابد من حصولهم على طريقة إتصال بمقر أللواء فيتم تزويدهم بجهاز سلكي, ولربط هذا ألجهاز بالبدالة تم حفر خندق عمقه تقريباً مترين يصل بين ألساتر ووحدة التنصت لحمايته بشكل نسبي من ألشظايا .
في أحد الليالي ألشتوية ألماطرة وأثناء وجودي في الملجأ متهيئاَ للنوم بعد يوم طويل مستمعاً لصوت ألفنان ألبصري ألمنفي ألراحل فؤاد سالم من مسجل كاسيت ينشد:
مثل روجات المشرح(نهر بوسط العراق) ترف ضحكاتك و احلى
و الذ من الهوى العذري
و اعز من العمر و أغلى
يانفحه من فجر آذار
يافلعة من گمر نيسان
يانسمة من هوه ايلول تنضح عنبر وريحان
يااحلى سالفة ازغيره اسمعتها بالعمر كله
وإذا بصوت نائب ألضابط عطية مقتحماً الأغنية صارخاً: لقد تم فقد الإتصال بنقطة ألتنصت ألتابعة للفوج الأول ليتجمع كل فصيل ألمخابرة لتصليح ألخطوط واحد منكم فقط يبق لإدارة ألبدالة.
ركضنا كلنا رغم الإرهاق إلى نائب ألضابط ألذي كان مهيئاً لنا مركبة واز (يو أي زد روسية ألصنع تشبه سيارة الجيب) وأخذنا معنا أجهزة فحص ألخطوط ألسلكية (هواتف أسكرا روسية ألصنع)
مضت بنا ألمركبةإلى ألساتر ألعراقي, ترجلنا بعدها وعبرنا ألساتر, طين هناك ولا يوجد سوى ألطينِ. كانت بساطلينا (أحذية ألجيش) تغوص في قوام طيني لزج وأضطررنا بعد بضعة أمتار أن نعبر قناة الإغمار لم أعرف قبل هذه ألليلة إن قيادة ألجيش قد أمرت بإنشاء هذه ألقناة من حدود ألعراق ألجنوبيه إلى مابعد محافظة العمارة , عرفت بعد هذه الليلة المشؤومة إن آمر أللواء 55 (مقرب من صدام حسين إسمه نوفل عبد ألمجيد) أمر آمر الفوج بإرسال جنود لاصطياد ألروبيان (جمبري!) من هذه ألقناة المائية وبَعثها لصدام في بغداد بحاوية تبريد بطائرة سمتية (هيلوكوپتر عسكرية). لعبور قناة إلإغمار هذه كان يتوجب علينا إن نسير على أربع فالمعبر لايتجاوز وصفه عن عمود خشبي زلق بفعل انغماره بالمياه وبساطيلنا المطينة. لدى دخولنا أرض ألحرام (عادة مزروعة بكل أصناف الألغام (بشرية ومضادات ألدبابات) شاهدنا إن ألقناة ألمحفورة وألتي تأخذنا لنقطة الإنصات قد تم غمرها بالكامل بمياه الإمطار. ألأسوء من ذلك قد جرفت مياه الأمطار مجموعة كبيرة من الألغام إلى داخل هذه ألقناة, إضطررنا لخلع بزاتنا ووضعها مع أجهزة ألفحص على رؤوسنا (لعدم إتلافها) ودخلنا هذه ألقناة عرايا نمشي بحذر. بعد بضعة خطوات إنفجر لغم تحت قدم سائقنا ألذي أصر على مرافقتنا رغم أنه لم يكن مرغما على فعل ذلك (كم وددت ان اكون أنا وليس هو من أنفجر أللغم تحت قدمه فالإعاقة في زمن صدام تعني ضمانة للحياة وعودة للحياة المدنية) تم تصليح ألخط وعدنا حاملين سائقنا ألمصاب ورجعنا إلى مقر أللواء. سمعنا فيما بعد إن سائقنا قد اعفي من ألخدمة ألعسكرية بسبب قطع قدمه. هذه ألليلة كانت غيض من فيض من أيام شرق ألبصرة قد أعود أليه في ألمستقبل.
|
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |