تذاكر 2005(عباس كيارومستاني): فيلم عن التذكرة التي نحجزها في الحياة في موقف لايمكن ان ينسى

بلال سمير الصدّر
2024 / 10 / 28

في فيلم انساني حتى الأعماق،ينتهج مسار السينما المستقلة التي نعرف طريقتها وأسلوبها بقوة،بحيث يبدو الموضوع كشذرة انسيابية تفتح الطالع لمواضيع وآفاق متعددة.
فالنظرة الأولى لها نقول أنها تتمحور حول موضوع واحد مركزي،ولكن الشذرة ليست إلا جزءا خالصا وان كان مركزا ولكنه ايضا ينتمي الى الحياة برمتها.
تعاون على تحقيق الفيلم ثلاثة مخرجين،منهم مخرجنا موضوع نقدنا،والفيلم يبدو انسانيا في الصميم،فالقصة الولى تبدو انسانية خاصة حتى الأعماق،والثانية ذات بعد اجتماعي أكبر ولكنها تنكص الى الخاص والفردانية....الى الذات التي ينكشف كل ضعفها الانساني من خلف مظهر محاط بالقوة،اما الثالثة وهي الابسط،فهي تحفر في العمق الحضاري للعلاقة بالآخر....
القصة الأولى للمخرج الايطالي(أرمانو أولمي)،عن عالم عقاقير يريد العودة الى موطنه الأصلي بالطائرة،ولكنه يضطر للسفر بالقطار بتدبير من مشرفة العلاقات العامة (سابين)،وهو القطار الذي ستتقاطع فيه كل مسارات قصتنا من عمق أوروبا...حتى روما
هناك تبلور لقصة حب بين عالم عقاقير وسابينا حدثت في الماضي القريب،والسرد في هذا الفيلم يسير من غير ترتيب،يخلط بين الزمن أحيانا والواقع المتخيل أحيانا أخرى...والتفصيل في هذه الجزئية يحتاج قليلا الى تتبع الحوار الشاعري والمونولوج الداخلي ايضا.
أنا اتساءل،إذا كنت معتادة على العزرف على البيانو في فرصة كانت...؟!
سابينا:لا لسوء الحظ...أنا لا افعل ذلك...ولكن لماذا سألتني عن ذلك...؟
عندما كنت طفلا،بالعادة كنت انتهي لوحدي في غرفتي وفي بعض الأحيان،في الصيف،كنت اسمع عزف على البيانو بعد الظهر....حقا(تقول سابينا)
هذه الموسيقى كانت تأتي من نافذة مفتوحة...كانت مظلمة من الداخل ولا تستطيع ان ترى من كان يعزف...كنت أجلس هناك في يوم كامل من الحلم....
من هذا الحوار تنبثق قصة حب غير خارجة عن المألوف،في القطار يحاول ان يكتب رسالة لسابينا،ومن هذه الرسالة تنطلق الذاكرة لترتب المشاهد التي الكثير منها لا يمكن ان تكون سوى حلما.
هل هو يعود الآن في الخلم،أم في الذاكرة....؟
كلاهما مرتبطان،متشابهان ومختلفان في نفس الوقت
الذاكرة تستعيد ذكرى لايمكن طمسها
الحلم هو رغبة في الذكرى لايمكن ان تنسى
وهنا أختلطت الأمور..زهل يعود في الحلم ام في الذكرى...؟!
لنتابع المونولوج الداخلي:
لكني لا اريد ان ادع مخيلتي تخيفني وبدء يوم حلمي مثلما كنت صغيرا،في احلامك اي شيء تريده أن يحدث من الممكن ان يحدث،وفي احلامك ليس من الداعي ان تفسر كل شيء...لا احد يسأل لماذا لأنه ليس هناك جواب،الشيخوخة ليست موجودة في الحلم فنحن دائما في سن الشباب،نحن نتمنى مشاعر محدودة لذلك لن نشعر بالخزي منها،نحن خائفين بان نكون محط للسخرية....
لكني اعرف الأن ان زمني تقريبا انتهى...احيانا اتفاجا بهذا الرابط القوي الذي يربطني بالحياة،توقع السعادة قليلا مثل اني لازلت املك الحق في الوقوع في الحب....
يقرر صديقنا عدم حفظ الرسالة...ينتهي الحلم المختلط بالواقع....يتوقف البيانو عن العزف ويعود بقوة الى الواقع،الى رابطه القوي مع الحياة الذي يقول له:لست في عمر يسمح لك بالوقوع في الحب
من هنا،من هذه الشذرة نستطيع ان ننشأ حفرا تاريخيا في القصة برمتها..زما هو المختفي وما هو الموجود وهل كانت سابينا فعلا تبادله هذا الاهتمام....ام كل هذا كان امنية حب ليس إلا...؟!
في القصة الثانية التي يقودها عباس كيارومستاني نتابع ايضا مسار إمرأة في اواخر العمر توفي زوجها منذ عام تقريلا وهي ذاهبة لروما لحضور احتفال ذكرى وفاته برفقة الشاب فيليب الذي يعمل في الخدمة الاجتماعية.
فيليب يلتقي بفتاتين يعدن اليه سرد الماضي،بحيث بدا بأنهما كانا يعرفانه معرفة عرضية او معرفة سطحية،او معرفة منذ زمن ماضي.
هناك ارتباطات عصبية خفية بين البشر....انه الشيء المدعو بالقدر
هي تتعامل بفظاظة شديدة مع الآخرين ومن ضمنهم فيليب أيضا الذي يفضل ان يهجرها،وهنا تبحث عنه بجنون،بجنون سببه الاعتراف بالضعف وليس اكتشافه...انه اعتراف بالاضمحلال وبأن الحياة الماضية قد ولت من غير رجعة...هي بكل بساطة إمرأة وحيدة،ومشهد وقوف هذه المرأة في محطة القطار بعد الوصول وحيدة مع امتعتها ومن ناحية انسانية هو اجمل مشهد في الفيلم واكثرها اثارة للتساؤل ليس عن مستقبل هذه المرأة،بل عن علاقة الانسان بهذا الكون نفسه،وكيف عليه ان يتقبل حقائق اختلاف الزمن وتقلباته الى درجة من الممكن ان تجعله يفكر في الانتحار.
المشهد الأخير يشي بقوة بسينما انتونيوني وسينما أنغمار بيرغمان من بعد....
سينما بيرغمان التي رسمت الهشاشة العاطفية للمرأة ذات مرة،وسينما أنتونيوني التي قالت الكثير من خلال مشهد واحد...
القصة الثالثة من أخراج- كين لوش -هي الأكثر عمومية عن ثلاثة مراهقين قادمين لروما لمشاهدة مباراة كرة قدم وتشجيع بلدهم اسكتلندا.
يلتقون بعائلة البانية مهاجرة ويعملون على مساعدتها وقبول سرقتها لتذاكر سفرهم حيث يتغلب دافهم الانساني على كل شيء.
فيلم تذاكر هو فيلم عن التذكرة التي نحجزها في الحياة في موقف لايمكن ان ينسى،وافضل جزئية في هذه الثلاثية ومن دون تحيز هي التي حققها عباس كيارومستاني،وتغلبت على القصة الأولى من حيث قوة ابعادها وتعددها،بينما القصة الأولى كانت عن شيء واحد غارقة في عاطفية ربما كانت في حاجة الى وقفة أطول من ذلك.
17/5/2024

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي