حدوث أم أزلية الكون

سعود سالم
2024 / 10 / 10

أركيولوجيا العدم
العقل المحاصر
١٨ - حدوث أم أزلية العالم

إن الله هو مؤيس الأيسات عن ليس - الكندي

بعد هذا المرور السريع على نظرية الخلق أو أسطورة التكوين العلمية والفيزيائية، نعود إلى موضوعنا الأساسي الذي هو مصدر إهتمامنا منذ البداية وهو العدمية بكل تجلياتها في فكرة الكينونة والعدم من الناحية الفلسفية أو في ظاهرة العدمية كتيار ثوري وسياسي. ويبدو أن فكرة العدم، هي من المقولات الغائبة واللامفكر فيها في كوزمولوجيا الأديان الأساسية ولا سيما في الإسلام. فالقول بأن الله خلق الكون من العدم، يتضمن القول بأن العدم عنصر يدخل في تكوين العالم ومكون أساسي في عملية الخلق، ويصبح بطريقة ما مرتبطا بالله الذي هو وجود مطلق ولا يجب أن تكون له صلة أو علاقة بالعدم. ويعني أيضا أن العدم هو مجرد حالة من حالات المادة كالطاقة أو الجاذبية يمكن أن تعود إليه المادة متى أراد الله وحسب مشيئته لإي إفناء المادة. وهذه الفرضية تختلف إختلافا جذريا عن القول بأزلية العالم وأزلية المادة، وأن الخلق قد تم من أشياء طبيعية موجودة مسبقا أو ملازمة لأزلية الله كملازمة السبب للمسبب، مما يسمح بدوام المادة الأولى ويسمح بوجود نواة طبيعية أزلية يتحرك الله داخلها وبواسطتها يصنع ما يشاء من أشياء، مثل صناعته للإنسان من الطين، والجن من النار والملائكة من النور .. إلخ، وأن ضمان أزلية هذه المادة الأولية يضمن أن الكينونة غير مخلوقة وأنها سابقة على أية قوة أخرى كالآلهة، بل قد يؤكد أن هذه الآلهة ذاتها هي جزء من هذا النظام الطبيعي كما هو الحال في النظام الديني في بلاد النهرين أو النظام اليوناني القديم. تعد قضية حدوث العالم أو أزليته من القضايا المهمة التي شغلت الفكر الفلسفي الإسلامي قديما وحديثًا، وشغلت كثيرًا من المفكرين الإسلاميين الذين خاضوا في دراسة هذه القضية من جميع الجوانب، حيث بدأ هؤلاء المفكرون بالرد على من سبقهم من الفلاسفة الذين قالوا بالقِدم من فلاسفة اليونان. ولقد جاء الرد لاهوتيا محضًا مستعينا بالأدلة القرآنية مثل ما فعل العديد من المتكلمين المعتزلة، وكذلك الكندي (٨٠٣ -٨٧٣م) الذي يعتبر أول فيلسوف إسلامي حاول توحيد الفلسفة والدين، والذي انتهى إلى القول بأن الله هو العلة الوحيدة والسبب الأول الخالق لهذا الكون : إن الله هو مؤيس الأيسات عن ليس، أي خالق الكينونة من العدم .. لقد كانت هذه الإشكالية محورية في ما يسمى الفكر الإسلامي، ومحل نزاع بين المتكلمين والفلاسفة. وقد دافع الفارابي (٨٧٤ - ٩٥٠ م) وابن سينا (٩٨٠ - ١٠٣٧م) عن فكرة قِدم العالم ضد المتكلمين، معتزلة وأشاعرة وغيرهم، وذهب الغزالي (١٠٥٨ - ١١١١م) في كتابه “تهافت الفلاسفة” إلى حد تكفيرهم؛ وعاد بعد ذلك ابن رشد (١١٢٦ - ١١٩٨م) للدفاع عن الفلسفة وتبنى نظرية قدم العالم وقدّم لها براهين عقلية جديدة مستندا على منطق أرسطو خالف بها الفارابي وابن سينا، وأعاد صياغة النظرة الأرسطية للعالم وذلك من وجهة نظر إسلامية، وذهب إلى أن إثبات وجود الله لا يتأتي من دليل "الحدوث" الكلامي الجدلي بل من دليل "القدم " البرهاني الفلسفي. والقول بالأزلية والأبدية بالنسبة للعالم نجده عند أكثر فلاسفة العرب، بينما نفي الأزلية والأبدية والقول بالحدوث نجده عند الأشاعرة وبعض الفلاسفة المسلمين كالكندي، والغزالي، والرازي. وموقف الفلاسفة المسلمين عامة يقوم على الربط بين فكرة الأزلية بمعنى اللامتناهي في الماضي، وفكرة الأبدية بمعنى اللامتناهي في المستقبل. فكل ما له انقضاء ونهاية له بالضرورة مبدأ وبداية، وكذلك الأبدي أو ما لا نهاية له، هو بالضرورة أزلي لا بداية له. وهذا يؤدي إلى القول بأبدية العالم إذا كان قد ارتبط بالأزلية، فإن القول بفناء العالم يرتبط بمسألة الحدوث، إذ إن صحة فناء العالم بعد وجوده يعد فرعا من الحدوث، فمن قال إن العالم حادث، فقد قال بجواز فنائه. بمعنى أن العدم قبل الوجود كالعدم بعده لا تمايز بينهما ولا اختلاف فيهما، فما جاز على أحدهما جاز على الآخر.
ومن ناحية أخرى نجد أن إشكالية القدم والحدوث كانت لا تزال تشغل الفكر الأوروبي الحديث في صورة المتناهي واللامتناهي، وخاصة لدى كانط (١٧٢٤ - ١٨٠٤م) في كتابه “نقد العقل الخالص” المنشور سنة١٧٨١. فقد أراد كانط من كتابه تقديم نقد للميتافيزيقا التقليدية وتأسيس مباديء جديدة للمعرفة، عن طريق توضيح أنها علم غير متكامل وتنقصه مصداقية الشرعية المنطقية، لأنها تمثل تجاوزا لتصورات ملكة الفهم البشري إلى ما لا تدركه كل خبرة تجريبية. وإشكالية القدم والحدوث بالنسبة لكانط يدرجها في قائمة المتناقضات Antinomy أو المتناقضة التي يقع فيها العقل الخالص؛ إذ أن أدلة القدم وأدلة الحدوث بدت له متساوية في القيمة بالنسبة للموضوع ونقيضه، ولا يستطيع العقل المجرد الفصل في هذه الإشكالية ويظل مترددا متناقضا مع نفسه إزاءها. ذلك أن كانط قد أعتبر الزمان لا نهائيا في الماضي سواء كان العالم حادثا له بداية أم أزليا، فإذا افترضنا أن العالم بدون بداية في الزمان فإن هذا يعني أن كل حادثة فيه قد سبقتها حوادث أخرى متعدة لانهاية لها، ولا يمكن أن تأتي حادثة من سلسلة لامتناهية من الحوادث، فكي نثبت ظهور حادثة يجب علينا بالضرورة افتراض بداية أولى للزمان. وإذا أخذنا الفرضية المضادة وهي حدوث العالم ووجوب بدايته في الزمان، وبما أن كل بداية تفترض زماناً خالياً سبقها، فمعنى هذا أننا نفترض زماناً سابقاً على وجود العالم كان خالياً منه، لكن لا يمكن ظهور شئ من زمان خالٍ، لأن الزمان الخالي لا يمتلك ولا يحتوي شرطاً يميز وجود أو عدم وجود العالم، أي لماذا حدث العالم في لحظة معينه وليس قبل أو بعد ذلك. وانتهى كانط إلى الإعتراف بعدم قدرة العقل البشري على ترجيح أحد المتناقضين. وقد ذكر الفيزيائي ستيفين هاوكنج في كتابه " تاريخ موجز للزمن" أن القديس أوغسطين 354 - 430، قد فطن عدة قرون قبل كانط إلى أن "الزمان" يرتبط بحركة الأشياء، وبالتالي لا وجود له قبل خلق العالم، فإذا لم يكن هناك عالم فلا وجود لفكرة القبل والبعد ولا لفكرة نهائية ولا نهائية الزمان، الزمان مقترن بالعالم. غير أن مذهب كانط بخصوص الزمان والمكان هو مذهب يتعلق بالمعرفة وليس بالفيزياء، ولذلك يعالج كانط إشكالية القدم والحدوث بإعتباره أن المكان والزمان ليسا موضوعين للمعرفة حتى يمكن أن نتسائل عن كونهما متناهيين أو لا متناهيين ، ذلك لأنهما مجرد أشكال قبلية للحدس والإدراك، أي تمثلات قبلية في العقل البشري يسمحان بإمكانية المعرفة. فالبحث في طبيعة المكان والزمان يعني أخذهما على أنهما شيئان في ذاتيهما والنظر إليهما على أنهما الطريقة التي تترتب بها الأشياء في ذاتها لا مجرد الطريقة التي تعطى لنا بها موضوعات الإدراك بعالم الظاهر. غير أن هذا لم يمنعه من توقيف الحكم حول قضية حدوث العالم أو قِدمه. وفي حين يحل كانط التناقض بقوله بعدم وجود حل منكراً قدرة العقل على اختيار أو ترجيح أحد طرفي التناقض، فإن ابن رشد يتخذ موقفا متذبذبا بين هذا وذاك أو موقف البين بين ولا يرفض التناقض ولا يحله، بل يتوسط بين النقيضين ويقدم نظريه في أن العالم قديم ومحدث في الوقت نفسه. ويبدو أن ابن رشد هو الذي تجاوز الصعوبة الجدلية للمسألة بمحاولة حلها. والحقيقة أن المسألة الجدلية لا تحل إلا برفع النقيضين معاً، وهذا ما فعله ابن رشد عندما قام برفع القدم المطلق والحدوث المطلق وقال بأن العالم قديم ومحدث في الوقت نفسه. فالقديم بإطلاق عند ابن رشد هو ما ليس له علة ولا يوجد من شئ، أما المحدث بإطلاق فهو ما له علة ووجد من شئ. القديم المطلق هو الله، والحادث المطلق هو الأشياء الجزئية أو الأجسام أو ما نسميه اليوم بالكائنات. أما العالم فهو يتوسط القدم المطلق والحدوث المطلق؛ إنه أزلي الحدوث. وليس هناك أي تعارض لدى ابن رشد في القول بحتمية وأبدية وأزلية قانون الطبيعة والقول بإله صانع للعالم، لأن قانون الطبيعة عنده هو إرادة الله وحكمته في خلقه، وهو “سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا”. أي أن العالم ليس قديماً على الحقيقة وليس محدثاً على الحقيقة، بل هو قديم ومحدث في الوقت نفسه، قديم بمعنى صدوره الدائم والأبدي عن الله، ومحدث بمعنى افتقاره إلى علة موجدة له تقع خارجه.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي