|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
أحمد رباص
2024 / 10 / 2
لهذا السبب استطاع هايدجر أن يكتب أن "الإنسان لا يمتلك الحرية كخاصية، بل بالعكس: الحرية، الدازاين المنفتح واللامتحجب، تمتلك الإنسان، وذلك بطريقة أصيلة بحيث تسمح وحدها لإنسانية بإقامة علاقة مع الموجود في كليته، وكما هو، عليها يتأسس ويرتسم كل تاريخ. إن عرض الموجود لا يكتمل إلا إذا استرشد بالفهم المسبق للوجود. الموجود لا يمكن أن يكون سببا أو دافعا حيال موجود آخر منكشف قبلا إلا إذا كان "مدفوعًا" مسبقا إلى الوجود. سبق أن قلنا إن الأساس يجب أن يرتفع فوق كل حقيقة أنطيقية بغية الوصول إلى الحقيقة الأنطولوجية لكل موجود (راجع ص: 74 في النص الأصلي). الحرية ليست شيئا محددا من بين أشياء أخرى، ومتجاورا مع الأشياء الأخرى، هي مأمورة مسبقا بأن..، وتحكم بالضبط من جانب إلى ٱخر
الكل بوصفه كلا. من ناحية أخرى، إذا كنا نبحث عن الحرية كأساس لإمكان الدازاين، فإذن هي ذاتها في جوهرها أكثر أصالة من الإنسان.
وما الإنسان إلا مدبر للحرية، إلا موجود ذو حرية في ترك الحرية لتكون حرية وفق الجهة التي استحقها، بحيث يصبح، عبر الإنسان، مرئيا كل استحقاق للحرية. حرية الإنسان، من الآن فصاعدا، لا تعني: الحرية كخاصية للإنسان، ولكن بالعكس: الإنسان كإمكان للحرية. إن الحرية الإنسانية، في اللغة الهايدجرية، هي الحرية بقدر ما تخترق الإنسان وتأخذه على عاتقها، تجعله هكذا ممكنا. إذا كانت الحرية هي أساس إمكان الدازاين، جذر الوجود والزمان، وبالتالي أساس تمكين وفهم الوجود بكل سعته وامتلائه، عندها يكون الإنسان، وهو يتأسس بوجوده على وفي هذه الحرية، هو الموقع الذي فيه والمناسبة (Gelegenheit) التي بها يصبح الموجود ظاهرا في كليته، إنه الموجود الذي من خلاله يتكلم الموجود في كليته وكما هو، هكذا يعبر هنا عن نفسه.
هنا تأخذ المكانة الأساسية لكتاب "الوجود والزمان" دلالتهاالكاملة. في بداية البعد الثاني، عندما تناولنا السؤال المطروح في موضوعنا كشيء في متناول اليد (Vorhandenheit)، اعتبرنا الإنسان موجودا ضمن موجودات أخرى، صغيرا، هشا، عاجزل، عابرا، مثل ركن صغير في الموجود كله (راجع ص: 50 في النص الاصلي). الآن وقد نظرنا إليه انطلاقا من أساس ماهيتها، من الحرية، تظهر لنا هذه الأعجوبة: يوجدالإنسان كالموجود الذي يكون فيه وجود الموجود، أي الموجود في كليته، ظاهرا. إنه الموجود في الوجود والأساس الجوهري الخاص الذي عنه يترتب فهم الوجود. هكذا إذن، تكون الحرية الإنسانية في جوهرها هذه الحرية التي تتيح للإنسان أن يكون من يكون؛ الحرية كأساس.
وصلنا الآن إلى نهاية هذا الفصل الثاني، ولم يبق إلا أن ننتقل إلى الخاتمة، ونسمح لأنفسنا بأن نقول ما يلي: مفهوم الحرية ليس فقط
مفهوما من بين مفاهيم أخرى، لكنه مركز كلية الوجود؛ فتحديد هذا المفهوم، كما يقول شيلينج، يعد بشكل صريح وصحيح جزء من
تحديد الكل ذاته. مفهوم الحرية ذو واقعية، لأن الوجود-الحر, باعتباره جهة للوجود، بشكل ماهية وأساس لجوهر وأساس الوجود في انتشاره الذي سوف نقف عليه من خلال شرح العلاقة بين الحقيقة والحرية وتناسق الفكر الهايدجري في الفصل التالي.
قدم بيليدور في الفصلين السابقين مختلف تعريفات مفهومي الحقيقة والحرية كما حددهما هايدجر في أعماله الرئيسية. في هذا الفصل الثالث، سيحاول (1) إضاءة الرابط أو العلاقة اللذين يوحي بهماالمفهومان. سوف يتساءل عن طبيعة العلاقة، بمعنى أننا سوف نتساءل معه عما إذا كان لهذين المفهومين نفس الطبيعة أم لهما طبيعة مختلفة. (2) سيحاول بإيجاز إلقاء الضوء على تناسق أو تماسك الفكر الهايدجري. وقبل أن يباشر مقاربته، رأى الباحث أته من الضروري، من وجهة نظره، أن يقول شيئا عن الوجود عند هايدجر، وهذا واحد من المفاهيم الأساسية التي سنحتاج إليها لتأسيس العلاقة المرغوب فيها، وعندما نفهم معنى هذا المصطلح سنتمكن، بمزيد من الأمان، من إقامة الرابط الموجود بين الوجود والحقيقة، بين الحقيقة والحرية. فماذا يعني "الوجود" عند هايدجر؟
في سائر كتاباته ومنذ البداية، في مؤلفه الأم، لم يتوقف هايدجر أبدا عن التأكيد على أن المشكلة الوحيدة التي كانت تشغله هي مشكلة الوجود. لقد كان الأمر يتعلق بالنسبة إليه بتذليل صعوبة تفسير معنى الوجود أو حقيقة الوجود. يقول هايدجر: "المعنى هو ما تنعقد به قابلية فهم شيء". معنى الوجود إذن هو ما تكمن فيه معقولية الوجود. عندما قال لنا هايدجر، في نهاية كتيبه: "في ماهية الحقيقة"، إنه يتوجب تعلم التفكير وفقا للأساس الذي هو الدازاين، فقد جعل تفكيره، بحسب برتراند ريو، ينخرط في المكان الاكثر اختفاء في الحقيقة، حقيقة الوجود نفسه.
بدأ هايدجر أولا من اللغة اليونانية لفهم "الوجود". والحال أن الوجود عند الإغريق ينفتح مثل Phúsis. تفهم هذه الكلمة بمعنى مزدوج: إنها تعني أولاً سيادة هذا الذي يستمر في الازدهار وهي في نفس الوقت وفي حد ذاتها التجلي المتجلي. هايدجر، المولع جدا بالإيتيمولوجيات (اشتقاقات الكلمات)، يدرس كلمة Phùsis من حيث جذورها نفسها. وفقا له، فإن الجذرين Phu و Pha يعنيان نفس الشيء. Phúsis تأتي من phúein، التي تعني الازدهار المرتكز على ذاته، phúein هي أيضا phaïnesthaï وتعني البدء في الإشعاع، الانكشاف، الظهور. لذلك، إذا فهمنا بشكل صحيح، يمكننا أن نؤكد متيقنين أن الوجود، بالنسبة إلى هايدجر، هو تبيان، ازدهار الواقعي، الذي هو ذاته ينكشف وينعقد في اللاكمون. لكنه ينتمي إلى حقيقة الوجود بحيث أن الوجود لم ينتشر ابدا بغير الموجود، أن موجودا لا يكون أبدا بغير الوجود. من خلال دراسة كلمة phúein المذكورة أعلاه، يلمح هايدجر إلى بندار، آخذا جذر phúa من كلمة phúein التي تشكل بالنسبة إلى بندار السمة الأساسية للوجود-هنا. Phua تعني الشخص الذي يوجد قبلا على نحو أصلي وحقيقي: الذي-كان-موجودا-قبلا. "الوجود هو التحديد الجوهري للنبيل والنبالة (أي كل ما له في جوهره أصل عال ويستقر فيه). ومن خلال الإشارة إلى ذلك، (إلى الوجود الأصلي)، يشدد هايدجر، كتب بندار: "هل تستطيع، وأنت تتعلم، أن تنتج نفسك، كمن أنت تكونه".
(يتبع)
نفس المرجع
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |