|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
الطايع الهراغي
2024 / 10 / 1
"نحن لا نحصي عدد القتلى في كلّ مكان بنفس الطّريقة"
( (جاك دريدا
"أروني موقفا أكثر بذاءة ممّا نحن فيه"
(مظفر النّواب)
"قوم إذا مسّ النّعال وجوههم ** شكت النّعال بأيّ ذنب تُصفع"
(المتنبّــي)
وما هزمك الأعداء وإنّما خذلك بنو جلدتك من إخوة وأصدقاء.
ما كان بإمكان شهيد لبنان، شهيد المقاومة حسن نصر الله أن يدبّج وصيّة.ولعلّه لم يفكّر في ذلك أصلا.فدأبُ المناضل أنّه مسكون بهاجس واحد أحد:أن يقتلع من عمره أكثر ما يمكن من الأيّام ويؤجّل موته إلى حين شماتة في الأعداء ليغيظهم فيصيبهم في المقتل بأن يكون عنيدا حتّى في مأساته،في إطار حرب نفسيّة شاملة،كلّ شيء فيها بحساب.
إذن فليكن دمه هو الوصيّة،أمانة في عنق من لا يجب أن يفغر وليس مسموحا له أن ينسى إلى أن يجيب العدم، حتّى يكون في مأن من كلّ إمكانيّة تصالح على ما لا تسمح أمّنا الأرض بأن يكون محلّ تصالح.
على جداريّة الزّمن كتب اسمه، نحت- كغيره من قوافل الشّهداء- هويّته(إسما وكنية) وهوايته،أمانيه وهواجسه،سجلاّت أعدائه ولعنات الشّهداء،عربدة الأطفال وأحلام الصّبايا،أحزان الشّيوخ ومخاوفهم وحنين الأمّهات وغضبهنّ ،سخط الأجيال التي ستظلّ تلاحق الأنظمة العربيّة إسما والصّهيونيّة هوى وفعلا(من محيطها إلى خليجها /مدنيّها وعسكريّها/ جمهوريّها وملكيّها)،بدءا من ذاك الذي امتلك من العهر ما يسمح له بأن يعلن على الملإ وكلّ صاقة عمالة صفراء وقحة وخيانة سمجة تقطر عفونة، شعارا به يتباهى ويباهي ويزيد،إلى ذاك الذي ادّعى في لحظات تخمّره ثوريّة خشبيّة في لغة خشبيّة هي الأخرى لم تتجاوز حدود التّلفّظ بها وما قتلت يوما ذبابة.
لو كانت كلّ الأشياء محكومة بمنطق ما لكان من حقّ المقاومة في لبنان(وفلسطين)ومن حقّ زعمائها أن يطالبوا الحكّام العرب بأن يعترفوا لهم بستر جزء من عوراتهم وبالمجان مع إعفائهم من موجبات التّعويض حتّى لا يكون الإحراج جارحا .
++ ولن تكفّ فيروزعن التّغريد
سيظلّ لبنان حزينا لكثرة ما اكتوى به من مآس وهو يودّع أحبّة دافعوا عنه وعن عاصمته يوم صارت عصمتها على مرمى حجر،ولمّا باتت الإقامة بها تهمة ومخاطرة.عانق أرزّ لبنان زييتون فلسطين فلا الأرزّ انثنى ولا الزّيتون انكسر فاكتسبت بيروت منعتها من آلامها وتذكّرت ماقله فيها المتيّمون بها من الشّعراء يوم احتموا بها واحتمت بهم: بيروت لا تركع. ستظلّ بيروت حزينة واجمة لما ستفتقده من غضب أبنائها منها وعليها.وستظل فيروز - قمر بعلبك- ترتّل في الصّبح والعشيّ آيات من قرآنها بتفاؤل أخّاذ " بحبك يا لبنان يا وطني". وما صلبوه وما قتلوه وما شبِّه لهم."سماحته" -على عادة من سبقه من الشّهداء، منذ بات للعرب قضيّة تستغيث طلبا لثأر يحفظ بعضا من الكرامة- لم يمت. قد يكون في خلوة نائيّة مع إخوة له،لا يقاسمونه بالضّرورة تشيّعه وتحمّسه لآل البيت ولا يعنيهم من أمر توزّع الأديان والأعراق شيئا، يتدارسون سبل التّوقّي من عجرفة حكّام(رؤساء وأمراء وملوك)قيل أنّ لهم علاقة ما بالنّسب العربيّ،نسب استكملوا عرضه للبيع في سوق النّخاسة وقدّموه صاغرين أذلاّء هديّه لعدوّ لم يقدّم لهم يوما هديّة عدا أسرهم كالحريم في زوايا قصور السّلاطين. من مكر التّاريخ ومُلحه العجيبة،من دروسه البليغة،ممّا حفظته الذّاكرة من نوادار على مرّ العصور والازمان أنّ بعضا من الانتصارات في أكثر من تجربة كانت دوما ملطّخة بالوحل والعفونة والخسّة والنّذالة. وهي أشدّ من أفدح الهزائم عارا.هي لعنة التّاريخ وصوت الإنسانيّة المتألّمة يدفعها ألمها إلى أن تكون توّاقة إلى لحظة تحرّر. وسام شرف لكلّ من انهزم وهو على وعي بأنّ هزيمته تلك ما كان يمكن إلاّ أن تكون لإنقاذ شرف القضيّة التي عنها يدافع. بعض من الهزائم - متى كانت على أرض المعركة-هي أقرب إلى اختيار تمليه الضّرورة.شرف خوضها(كضرورة تستوجبها اللّحظة وليس كاختيار) يحتّمها فيعليها إلى مرتبة أكثر الانتصارات وهجا وألقا. وسام على جبين كلّ من جعل الحرّيّة والتّحرّر راية خفّاقة بها يهتدي كلّما توجّس أن السّبيل قد يفلت منه. ولنا في تاريخ الثّورات والتّجارب شرقا وغربا،في الأزمنة القديمة كما في الأزمنة الحديثة شواهد دلاّلة دامغة ومفحمة عن هزائم كان لا بدّ منها لكي لا تنتهي القضايا وتظلّ حيّة في العقل والوجدان.يكفينا في ذلك استحضار"هزائم" المقاومة في فلسطين منذ ثورة القسّام وصيحته التي اخترقت التّاريخ" موتوا شهداء" .
تاريخ هزائم، بعضها بأياد عربيّة وبحراب غدرعربيّة هي الأخرى.ولكنّ القضيّة ظلّت باقية ولم ولن تموت.
من غرائب التّاريخ - تاريخنا العربيّ تحديدا- الذي لا ينضب من المهازل أنّ كثيرا ممّا روّجته الأنظمة من أوهام طيلة عقود بات رغم فداحته أملا يُطلب ولا يُدرك.عجلة التّخاذل تسير بسرعة قياسيّة جعلت من التّسابق والتّباري في الحجّ إلى زريبة التّطبيع إنجازا يتباهى به حكّام آخر زمان ممّن لا إنجاز لهم غير مراكمة كلّ موجبات الإحباط والفشل سبيلا إلى تعميم التّفكير المهزوم وفكرة الهزيمة التي أرادوها شاملة وعملوا على أن تكون كذلك. مسكينة الخيانة.افتكّ منها الحاكم العربيّ ريادة الفظائع والفضائح فصارت بحاجة إلى كثير من المذاكرة والمثابرة والرّسكلة لتسترجع موقع الزّعامة.
في اللّحظات التي يُفترض أن يكون فيها الحياد مسخا وأكثر الأكاذيب المجنّحة وقاحة وقلّة حياء يتنافس ملوك الطّوائف وأمراء دويلاتنا وأشباح ممالكنا في تنظيم قوافل رحلات الحجّ المبرور إلى البيت الأبيض، بيت الطّاعة يستفتونه في سبل ترويض شعوبهم وتنويمها بحبوب الإدمان على الخيانة وتشرّب الهزيمة.
من أفضال العرب على التّاريخ أنّ "إنجازات" حكّامهم كسر للقاعدة وتسفيه عمليّ بالحجّة والبرهان لِما اعتقد النّمساويّ فرويد أنّه اكتشاف:انتصار غريزة حبّ البقاء والتّشبّث بالحياة على غريزة الموت والاستكانة للفناء.مسكين فرويد. كان عليه، وهو يبشّر بما اهتدى إليه واعتقد أنّه سبق في مجال علم النّفس، أنّ يتفطّن إلى أنّ مشايخ العربان في عداء أبديّ مع المعايير والقيم وشكّلوا دوما استثناء يخرق أيّة قاعدة مهما كان بناؤها منطقيّا وسليما.
يمكن الجزم بأنّ شيخ المطبّعين ورائدهم وزعيمهم الرّئيس "المؤمن" محمّد أنور السّادات، لمّا غامر بإبرام صلح منفرد (1979) مع عدوّ غير منفرد بشكل عجيب فجئيّ واستعراضيّ مع عدوّ أمّته التّاريخيّ، ما كان يعتقد للحظة - حتّى من باب الافتراض الرّياضيّ- أنّ أخلافه من المولعين بالتّطبيع سيجعلون من الخيانة وجهة النّظر الوحيدة وسيكونون أكثر منه رحمة بمجاميع العمّ سام وأكثر تعاطفا مع دعاة الاستسلام المتدثّر بعباءة السّلام.
اغتيال حسن نصر الله كزعيم باعتراف الأعداء قبل الأصدقاء زلزال في لبنان خصوصا وفي المنطقة عموما.على مستوى حزبه وعلى مستوى المقاومة.حدث سيطبع سياسات المنطقة لحقبة طويلة(إن بالسّلب وإن بالايجاب).
فالرّجل زعيم في بلد أثخنته الحروب وفي مقاومة يحاصرها الحصار من كلّ الجهات.أوكل لنفسه في أكثر من مناسبة وفي كم محطّة مهمّة إنقاد للدّولة من فضيحة الخضوع للاحتلال، وبين الحين والحين كان يقوم بالمهمّة التي يفترض أن تكون من مشمولات الجيش والدّولة في بلد يخنقه الاحتلال.غطّى عورات حكّام عاجزين عن حماية الكراسي التي عليها يتربّعون ولا شان لهم بالدّفاع عن أوطان ساهموا في استباحتها بشكل يكاد يكون يوميّا.حالة من العهر السّياسيّ والتّهوّر الأخلاقيّ والعربدة القيميّة المعلنة. ولا يخجل الكثيرون من عرّابي الفكر وتجّار المواقف من تحويله إلى بضاعة معروضة على قارعة الطريق وفي سوق بورصة العمالة الرّخيصة،ويستميت البعض الآخر في تحويل السّفالة إلى قيمة يجاهرون بها كمقدّمة لفرضها كأمر واقع. رجل حزبه كان له الفضل في كسر أسطورة وشوكة الجيش الذي لم يُهزم ولن يهزم.
++ "فقط كفّوا عنّا أذاكم"
في جويلية( تمّوز)2006 لمّا شنّ العدوّ الصّهيونيّ حرب دمار شامل على لبنان طيلة 34 يوما، في ظلّ صمت مطبق مريب من الأنظمة العربيّة ( حتّى المتاخمة للبنان) مجتمعة ومنفردة،وبتزكيّة معلنة ومفضوحة من أغلب حكّام الهانة والمهانة،هذا إن لم يكن بتنسيق مسبق مع بعض إماراتها،يومها لم يجد حسن نصر الله زعيم حزب الله(ككلّ من أضاع في التّرب خاتمه فيئس من البحث عنه) ما يطلبه من الحكّام العرب،وقد باتوا خدما لمن احتلّ الأرض وداس على العرض وقصف الذّاكرة وحوّل عروش السّلاطين إلى أوكار دعارة وتخابر،فاكتفى بمرارة وسخريّة بمناشدتهم"لا نريد منكم شيئا، فقط كفّوا أذاكم عنّا".وحسنا فعل. فمن ينتظر حميّة ونصرة من حكّام أقصى حلمهم ومآثرهم أن يظلّوا في الحكم أطول فترة ممكنة، وأقصى اجتهادهم أن ينالوا شهادة استحسان وحسن سيرة ومعلّقة شرف مكافأة لهم على منسوب الانضباط والتّعقّل من أسيادهم في البيت الأبيض، كمن يتسوّل العسل من دبر اليعسوب ويحلم بالفوز بأسرع سباق للخيل وهو يمتطي صهوة أتان.
الحقّ،كلّ الحقّ مع شاعر البذاءة الجارحة في مواجهة الوقاحة الأكثر فظاعة، مظفّر النّوّاب.لم يجد المسكين في اللّسان العربيّ وفي قواميس اللّغة ودلالاتها وفي الشّروح وشروح الشّرور،وهو الضّليع في ترصيف رذائل من قال عنهم شيخ الهجّائين أبو الطّيّب المتنبّي"أرانب غير أنّهم ملوك** مفتّحة عيونهم نيام"،لم يجد شتيمة ترقى إلى مستوى ماعليه ملوك طوائفنا من انحطاط غير مسبوق يترجمه تعطّل إحاسيسهم وانسداد شرايين مداركهم العقليّة فكان أن جزم بــ"أنّ الحكّام العرب هم أكبر من أيّ شتيمة".
آية ذلك أنّ الشّتيمة مهما كانت فظاعتها ودرجة إهانتها ووقعها تظلّ دوما ضربا من ضروب التّقييم في حين أنّ حكّامنا جنس غير آدميّ،فصيلة غريبة وهجينة، من كوكب الدّيناصورات التي لفظها التّاريخ وتبوّل على جثثها وأحالها إلى متاحف الاستهزاء والسّخرية،نوعيّة تستعصي على التّصنيف،يصحّ فيهم قول المتنبّي في هجائه لكافور الإخشيدي:"ومثلك يؤتى من بلاد بعيدة ** ليُضحك ربّات الحجال البواكيا". .
++ طوبـى للشّهـداء
لم يخطئ شاعر المقاومة في الدّاخل سميح القاسم عندما جزم في رثائه لمعين بسيسو بأن الشّهداء يتماوتون ولا يموتون.ألا ترى أنّهم في كلّ مكان يُبعثون؟؟ كانت المقاومة. وستظلّ ما بقي "البرتقال الحزين" يحنّ إلى شموخه وما بقي الزّعتر والزّيتون، ثائرا لا يفنى وثورة لا تموت. طوبى للشّهداء عاشوا كما أرادوا لا كما أراد لهم الأعداء. ستحتفل بمقدمهم أرض الأحرار نكالة في طابور من عملاء سيجفل منهم القبر ويستغيث ولن تسعهم الأرض فرحا وانتشاء. سلام،سلام،على من صمد ولم يتسوّل من أحد مددا/ سلام على من لاذ بعباءة الثورة عمدا وبها احتمى طوعا.فما طالته حماقات الدّولة وبات في منعة من آفاتها/ سلام على الشّهيد حمل معه إنجيل الثّورة ليظل دوما على خطاها يسير.
وصيّة الشّهيد منقوشة بأحرف تاجيّة ومختومة بشلاّل دم على الأبواب السّبع لمداخل المدينة: لا أغفر، لا أسامح حتّى أكون في حلّ من كلّ تصالح.
.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |