محددات السياسة الخارجية الأميركية تجاه القضايا العربية*

عبدالله عطوي الطوالبة
2024 / 9 / 21

المحددات، هي العوامل والدوافع والمتغيرات ذات الدور والتأثير في صنع السياسات، وتتجلى عادة في أفعال وقرارات. من هنا، فإننا نشك بأن مسار العلاقات الخارجية بين الدول والكيانات السياسية شهد عبر التاريخ، انحيازًا للظلم والعدوان والباطل، كما هو واقع الحال على صعيد الدعم الأميركي الأعمى والمطلق للكيان الصهيوني اللقيط في تكوينه والشاذ في ممارساته. ومن أحدث الأدلة الدوامغ على هذا الإنحياز الأعمى، نكتفي بإثنين قاطعي المعنى وفاقعي المغزى، أولهما، تصفيق الكونجرس الأميركي حوالي 81 مرة وقوفًا لمجرم الحرب نتنياهو، خلال بث أكاذيبه وإظهار صلفه وغروره فيما سمي خطابًا ألقاه أمام مشرعي أميركا، يوم 24 تموز 2024. لم تعرف أميركا مثل هذه الحفاوة في تاريخها، حتى لرئيس أميركي. الدليل الثاني، نجده في ما يزيد على 50 ألف طن من أحدث الأسلحة الأميركية، وأكثرها فتكًا وتدميرًا، قدمتها أميركا للكيان اللقيط بعد السابع من أكتوبر 2023، فضلًا عن الغطاء الأميركي السياسي للعدو الصهيوني ليواصل عدوانه الهمجي البربري ضد شعبنا العربي الفلسطيني في غزة بخاصة، وفي فلسطين المحتلة بعامة. وعليه، فإننا نرى قَدَرًا من المنطق موفورًا في الرأي القائل إن الحرب البربرية الوحشية ضد الشعب الفلسطيني إنما هي حرب أميركية بأيدٍ صهيونية. ويعضد هذا الرأي، ما تكشف عليه الكيان من هشاشة وضعف يوم الطوفان في السابع من أكتوبر، حيث مُني بإخفاق أمني وعسكري واستخباري كبير، سيظل محفورًا في أعماق ذاكرته لزمن طويل.
ولكن لماذا تنحاز أميركا بشكل أعمى للكيان، غير آبهة حتى رُغم مصالحها المتكثرة في العالم العربي؟! فالأرقام تقول إن مجموع الاستثمارات الأميركية في الكيان 52 مليار دولار، وفي البلدان العربية حوالي 162 مليارًا. كما أن 39,6% من مبيعات السلاح الأميركي خلال السنوات من 2019-2023 كانت للبلدان العربية، مقابل 3,6% للكيان.
عندما يُطرح سؤال: لماذا الإنحياز الأميركي الأعمى لكيان شاذ لقيط اتخذ من العدوان منهجًا ومن القتل شِرعةً، تنصرف الأذهان إلى ما يتردد بكثرة في وسائل الإعلام العربية وتجري به الألسنة كثيرًا في مجتمعاتنا. ومنه، تأثير الجماعات الإنجيلية المتصهينة. وهناك آراء تركز على تأثير اللوبي الصهيوني في أميركا. ولا يخلو الأمر من وجهات نظر تتوسع في الإجابة، لجهة القول المتداول المعلوم من فرط فشوه، ومؤداه أن "اسرائيل عدوانية باطشة، يعني أميركا قوية في المنطقة". يتزيد أصحاب هذا الرأي ويضيفون أن اسرائيل مخلب أميركي في منطقتنا، يستخدمه العم سام لتحقيق أكثر من هدف، وضرب عصافير عدة بحجر واحد. فبهذا المخلب تُخيف النظم العربية الحاكمة، كي تظل في بيت الطاعة الأميركي. كما تنفذ اسرائيل بممارساتها العدوانية، ما تتغيَّاه أميركا وغربها الأطلسي، لتظل منطقتنا بؤرة توتر مواتية للتاجر الأميركي المرابي الجشع كي يسوق أسلحته، وبخاصة المتقادم منها، بمليارات الدولارات من عائدات النفط المتبوع بوصف عربي. وبالمخلب الصهيوني، يتأتى لأميركا إبقاء بلداننا العربية هشة غارقة في أزماتها، وبالتالي تَسْهُل السيطرة عليها. يُضاف إلى ما ذكرنا، عالم عربي يبدو عاريًا مكشوفًا، تكفل بنزع سلاحه ونزع ملابسه وثقته بنفسه، بتعبير الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل رحمه الله.
أسباب لا ننكر تضافرها معًا، وتأثيرها بهذا القدر أو ذاك على صانع القرار الأميركي. لكنها تتراءى لنا على السطح، وهناك ما هو أعمق منها وأفعل تحته يصعب استيفاء مطلوب هذه المحاضرة من دون الغوص في العمق لبسطه تحت الشمس.
هنا، نجد أنفسنا مرغمين على العودة إلى بدايات نشأة أميركا، أميركا "البيضاء الأنجلوساكسونية"، التي نعرفها اليوم.
أميركا لديها وفرة في القوة، وسعة في الغنى وفي الجغرافيا، لكنها فقيرة في التاريخ. بدأت مسيرتها، منذ القرن السابع عشر، وهو ما يعني بمعايير التاريخ أنها دولة حديثة النشأة. وهذا ما يجعل المسؤول الأميركي ينفر من الحديث مع الآخرين في التاريخ. دعونا نتأمل هذا الكلام لهنري كيسينجر، وهو من هو في التاريخ السياسي الأميركي الحديث، وقد وجهه للأستاذ محمد حسنين هيكل بعد أسبوعين من انتهاء حرب أكتوبر عام 1973: يقول هيكل إنه التقى كيسينجر، الذي بادأه بالقول: " أريد أن أسمع منك كل ما تريد قوله لي عن الأزمة الحالية في الشرق الأوسط، ولكن لي شرطين: لا تحدثني عن التاريخ، حدثني عن الواقع الراهن هذه اللحظة، لأننا من هنا نبدأ. الشرط الثاني: حدثني عن مصر وحدها، ولا تقل لي شيئًا عما تسمونه أنتم "الأمة العربية". أعرف أن هناك شعبًا في مصر، هذه حقيقة، ولكن أن هناك أمة عربية، فذلك إدعاءٌ تقولون به، وهو لم يثبت لي، وبالتالي لست مستعدًّا له". هنا، نلتقط أول محددات السياسة الخارجية الأميركية تجاهنا كعرب: لا نعترف بكم أمة ولستم كذلك، كما نراكم، ولنبدأ الكلام من اللحظة الراهنة، ولا داعي لهدر الوقت في نبش ملفات التاريخ. التاريخ بالنسبة للأميركي يبدأ اليوم، وعلينا نسيان الماضي. هذا هو المحدد الأول. من هنا نفهم لماذا ترد المشاريع والمبادرات الأميركية تجاه منطقتنا العربية وقضايانا، في إطار تسمية "الشرق أوسطية". الهدف الرئيس لذلك، طمس الهوية العربية وإحلال هوية مختلفة مكانها ترتكز على أساس اقليمي، أي هوية شرق أوسطية، تقبل الكيان الشاذ اللقيط المزروع في الجسد العربي بإسم "اسرائيل".
المحدد الثاني، نقدم له باستحضار حقيقة أن أميركا بدأت كموطن أو ملجأً وفضاء جغرافي مفتوح لمغامرين أوروبيين، كان الكثيرون منهم نزلاء سجون. هؤلاء غامروا بالهروب إلى القارة الجديدة إما من الاضطهاد العنصري أو الديني، وكلهم يبحثون عن الثراء في بلاد مكتشفة غنية بمواردها وثرواتها الضخمة. مُذّاك، بدأ يتشكل انطباع لم يلبث أن انتشر في قارات العالم كلها لاحقًا مفاده أن أميركا "أرض ميعاد" لكل طامح بالثراء وطامع بنمط حياة مختلف عما كابده وشقى به في وطنه الأصلي، أرض ميعاد لا اقطاع فيها يضطهد ويقمع ويقهر، ولا ملوك يستغلون ويبطشون بقوة البوليس، ولا كنيسة تتحكم وتصدر صكوك غفران توزع الناس بموجبها على الجنة والنار. هذا الوطن المفتوح، وبصفته هذه، لا تحكمه ثوابت، وهو ما انعكس على عقلية قاطنيه الجدد، على صعيد سياساتهم لاحقًا في معالجة الصراعات بمقترحات لا تتقيد بثوابت أيًّا كانت ولا تخضع لها. من هنا نفهم اقتراح رئيس أميركي أسبق هو بيل كلينتون المقدم للعرب بالتخلي عن القدس لاسرائيل. وإذا كانت القدس تعني "شيئًا" للعرب والمسلمين، فالمشكلة محلولة بسهولة. كيف؟ باختيار مكان ما قريب من القدس، وليكن هذا المكان قرية أبو ديس مثلًا، ويسمونها القدس !!!
ونرى أن هذا الطرح يحكم السياسة الأميركية ويوجهها بخصوص قضايانا كلها، وفي طليعتها القضية الفلسطينية ودرة تاجها مدينة القدس. فلم يجد رئيس أميركي لاحق ومرشح لانتخابات الرئاسة الأميركية الحالية، هو دونالد ترامب، حرجًا في إصدار قرار نقل سفارة أميركا إلى القدس بجرة قلم في السادس من كانون أول 2017.
التاريخ إذن، يبدأ من اللحظة الراهنة والوضع القائم، في دولة نشأت كموطن وملجأ وليس وطنًا، نشأت كفضاء مفتوح لا يتقيد بثوابت، هذه المحددات استصحبت محددًا آخر، مفاده أن ليس هناك شيء اسمه الحقوق التاريخية، بل الأساس والمنطلق هو الحقائق المستجدة على الأرض. وليس لهذا المحدد من معنى آخر سوى أن الحق ليس إلى جانب أصحاب الحقوق التاريخية، ولا مراعاة للقوانين والأخلاق والإنسانية في ممارسة السياسة، بل الحق للقوة، قوة السلاح. وكانت البداية الفعلية لتطبيق هذا المحدد على الأرض، إبادة الهنود الحمر. وقد كان عددهم يقدر حسب المصادر التاريخية بحوالي 50 مليونًا، عندما وطأت قدما كريستوفر كولومبس أرضهم سنة 1492. وقد أبيد منهم على أيدي المهاجرين البيض 47 إلى 48 مليون انسان.
هكذا تنظر دوائر القرار في واشنطن إلى القضية الفلسطينية، وذلك على مثال ما فعلوا بالهنود الحمر. فالحق ليس الى جانب أصحاب الحقوق التاريخية، بل لقوة السلاح غير المقيدة بكوابح المبادئ والقيم، والحقائق التي يجسدها المهاجرون الجدد، هي بداية التاريخ.
إذن، القوة مصدر المشروعية، القوة تحول الاحتلال واغتصاب حقوق الآخرين إلى حيازة بداية، ثم إلى ملكية لاحقًا. أليس هذا ما يفعله الكيان الصهيوني اللقيط في فلسطين، بدعم أميركي مطلق وانحياز أعمى؟!
هذه القوة، كما قلنا، مجردة من القيم، ترى المطالبة بالعدل سلاح الضعفاء. وترى أن الحق إلى جانب القوة، وهي التي تكتب القانون، ولكن لا بد لها من مبرر تتكئ عليه. هذا المبرر هو توظيف الدين في خدمة السياسة والقوة، ومن التزاوج بين القوة والدين، نشأ محدد آخر للسياسة الأميركية، يُعرف ب"النفعية".
في بيان ذلك، نستحضر بداية رد مادلين أولبرايت، وزيرة خارجية أميركا في إدارة بيل كلينتون، على استقالة اثنين من مفوضي الأمم المتحدة مسؤولين عن تنسيق برامجها في عراق ما قبل التاسع من نيسان 2003، وقد أعلن كل منهما أن ضميره لا يتحمل وفاة نصف مليون طفل عراقي جراء الحصار المفروض على العراق بإسم الأمم المتحدة، فكان ردها بالحرف:"ربما وفاة نصف مليون طفل ثمنٌ غالٍ، لكننا نرى أن الهدف الذي نطلبه يساوي ذلك الثمن وأكثر منه" !!!
تَشَكَّل محدد المنفعة في بداياته بغطاء ديني، مؤداه ببساطة، أن الله لم يخلق الأرض عبثًا، والبشر ملكفون بعمل كل ما من شأنه أن ينتفعوا به من الأرض وينفع الأرض ذاتها أيضًا. وعلى هذا الأساس، فإن الأقدر على فعل ذلك، هو الأحق بملكية الأرض التي يستصلحها وينتفع بخيراتها. فالمهاجرون البيض حلوا في أرض كانت في حوزة الهنود الحمر منذ الأزل، لكن هؤلاء الأخيرين، أي الهنود الحمر، لم يؤدوها حقها بالنفع والانتفاع، وبالتالي، فهي من حق الأقدر على القيام بهذه المهمة. من هنا نفهم، إيلاء الصهاينة أهمية كبرى للإدعاء بأن فلسطين كانت أرضًا جرداء قاحلة وموحشة قبل أن يستعمروها ويجعلوا منها جنات غناء !!!
فهم يعلمون مدى تأثير ذلك في العقلية الأميركية. ولعل الصهاينة أقنعوا الأوروبيين بذلك أيضًا، وعلى هذا الأساس نفهم أيضًا أحد أهم أسباب بلادة أميركا والغرب الأطلسي عمومًا إزاء جرائم جيش النازية الصهيونية وارتكاباته في فلسطين المحتلة.
محدد آخر للعقلية والسياسة الخارجية الأميركيتين معًا، نجده في إباحة التوسع على حساب الآخرين، بالقوة أو بالمال. المتابع لنشأة أميركا، لا بد سيلحظ مدى تطابقها مع بدايات زرع الكيان الصهيوني في فلسطين. فقد ظهرت أميركا بداية، كما الكيان اللقيط تمامًا كبؤرٍ استيطانية (إقرأ استعمارية) متناثرة في أرض الهجرة. ولم تلبث المجتمعات الاستيطانية أن كبُرت واتصلت فيما بينها، وباتت حاجتها ملحة الى دولة تحمي وتحافظ على المصالح وتعززها، وتكفل الأمان المشترك للجميع. أخذت الولايات تتشكل، ونشأت ما تُسمى حركة الاستقلال الأميركية بقيادة جورج واشنطن. استقلت الدولة الأميركية الوليدة عن بريطانيا عام 1776، وكان أول تحدٍّ واجهته الحرب الأهلية سنة 1861 وقد أسفرت عن التوصل إلى توافق بإنشاء دولة اتحادية بقيادة مركزية يرى الجميع أنها تمثله دون وصاية، وتَحفَظ حقوقه من دون مِنَّة. بعد الاستقلال، أخذت أميركا تتوسع، بشراء الأرض بالمال على الأغلب، أو بالقوة. فبصفقة بيع وشراء مع فرنسا، صارت لويزيانا أميركية. جزيرة مانهاتن وفيها نيويورك، باعها أحد زعماء من تبقى من الهنود الحمر إلى شركة هولندية. وبعد ذلك بعشرات السنين باعتها هذه الشركة إلى أميركا. ومن روسيا اشترت أميركا ألاسكا الواقعة شمال كندا، في عهد يكاتيرينا الثانية. وبين عامي 1846 و1848 غزت أميركا جارتها المكسيك، ودخلت عاصمتها. وأجبرت المكسيك على قبول معاهدة غوادالوبي هيدالغو. بموجب هذه الاتفاقية، جردت أميركا المكسيكيين من ثلث بلادهم، وتشمل ولايات نيفادا وكاليفورنيا ويوتا وأريزونا ونيومكسيكو. وكانت أميركا قد توسعت غربًا على حساب المكسيك قبل الحرب، فتملكت تكساس سنة 1845. وبعد الحرب الأميركية –المكسيكية، تخلت المكسيك أيضًا عن ولاية كاليفورنيا التي صارت أميركية عام 1850 بعد اكتشاف الذهب فيها بكميات كبيرة.
هذا التوسع الجغرافي بالقوة أو الشراء بالمال كرَّسَ في العقلية الأميركية شرعنة استباحة الأقوياء لأراضي الضعفاء، والسيطرة عليها أو أجزء منها. وعلينا أن نفهم تصريحات ترامب الأخيرة عن "إمكانية" توسيع اسرائيل صغيرة المساحة الجغرافية، في هذا السياق.
بعد أن استكملت أميركا توسعها إلى الغرب، وضمت إليها كاليفورنيا وتكساس وجدت نفسها في موقع جغرافي فريد من نوعه. فالطبيعة، متمثلة بالمحيطين الأطلسي من الشرق والهادي من الغرب، توفر قدرًا من الحماية من خطر غزو بري، أو على الأقل تعيقه ريثما تصبح الاستعدادات على أتمها لصده. حصل هذا قبل توصل العقل البشري إلى صناعة الصواريخ العابرة للقارات والقاذفات الاستراتيجية بعيدة المدى، وبالتزامن مع بدايات تحول ما يُعرف ب"الحلم الأميركي" إلى طموح للكثيرين على امتداد الكرة الأرضية بتأثير ماكنة اعلامية ضخمة تروج لنمط الحياة في أرض الأحلام. وإذا جاز تلخيص عناصر هذا الحلم، نقول باختصار إنها أربعة مبدوءة كلها بتعبير وفرة: وفرة في الغنى، وفرة في الاستهلاك، وفرة في الرفاهية، وفرة في القوة. ونضيف إليها ما لا يستدعي مُجادلةَ مُجادلٍ، ونعني وفرة في التدخل بشؤون الآخرين. ويقابل هذه الوِفار فقر في التاريخ، كما أنف الإلماع إليه. أميركا الدولة الوحيدة في التاريخ التي لها حضورها في القارات كلها بقواعدها العسكرية وتواجدها الإستخباري، وبذلك فإنها تحشر نفسها وتدس أنفها في كل خلاف بين دولتين، أو حتى داخل الدولة الواحدة، أي دولة على سطح الأرض. اليوم، نحن العرب أكثر من يدفع أثمان هيمنة أميركا وانتشارها العسكري خارج حدودها. لماذا هذا الحضور في القارات كلها والتدخل في شؤون الدول؟! الإجابة تُظهرنا على محدد آخر رئيس للسياسات الأميركية تجاه القضايا العربية وغيرها. هذا المحدد بكلمة واحدة، هو المصالح. لأميركا مصالح لها الأولوية على ما سواها، ومن ثوابت السياسة الخارجية الأميركية الحفاظ عليها لحماية أميركا ذاتها أولًا، ولضمان استمرار نمط الحياة الأميركي، كما ذكرنا عناصره قبل قليل، ولكن كيف؟!
الإجابة تنقلنا إلى محددات غير التي ذكرنا، لكنها تشكلت على أرضيتها.
فبما أن الطبيعة لم تعد تحمي أميركا، في زمن تطور تكنولوجيا السلاح، فلا بد إذن من امتلاك أقوى أنواعه، لحماية أميركا الدولة ومصالحها.
المصالح في العقل الأميركي تعلو على الوطنية، تأسيسًا على ما أنف بيانه، وعلى وجه التحديد نشأة أميركا ليس كوطن وإنما كملجأ ومحط أنظار الطامحين بالثراء والتمتع بنمط حياة الوفرة في كل شيء، على نحو ما سبق بيانه. ولهذا تفضل أميركا حماية مصالحها من دون حاجة إلى التضحية والموت.
كما استقر في الذهن الأميركي أن من الأفضل إدارة الصراعات عن بعد، وعدم المساهمة الجدية في حلها. فلا مصلحة لأميركا في حل أي صراع في أي منطقة، ما دامت مصالحها مضمونة. وهذا ينسحب على الصراع العربي الإسرائيلي. المهم، حماية مصالح أميركا والإمساك بخيوط الصراع، وتوظيفه لخدمة المصالح الأميركية، ومنها بيع السلاح. أما الحروب، فإذا اضطرت أميركا لخوضها، فمع الضعفاء بشكل أساس، وبحيث توجه إليهم ضربات قوية تُظهر جبروت القوة الأميركية وما تتوفر عليه من أسلحة فتاكة، لإيصال الرسائل المطلوبة إلى العناوين المقصودة، ونعني الأقوياء. وحتى مع الضعفاء، فمن الأفضل ضربهم عن بعد، لتفادي سفك الدم الأميركي الذي يعشق أصحابه الحياة وملذاتها في موطنهم أميركا. وإذا كان ولا بد من حرب مع الأقوياء، فلتكن بالوكالة، كما نتابع اليوم في أوكرانيا، ويُحتمل إشعال فتيل حرب في بحر الصين تستهدف التنين الصاعد اقتصاديًّا.
المواجهة مع الأقوياء غير مضمونة النتائج، لجهة احتمال أن يتكبد الأميركي خسائر في الأرواح لا يحتملها، خاصة وأن التضحية بالنفس بالمعاني الوطنية السامية التي نعرفها لا مكان لها في بنية العقل الأميركي.
تأسيسًا على ما تقدم، اسمحوا لي أن اختم بما أعتقد أنه مفاتيح ثلاثة لفهم ما يجري في منطقتنا بشكل خاص، جراء الهيمنة الأميركية.
المفتاح الأول: الأميركي لا يحسب حسابًا لأحد، ولا يرعوي أو يهتم أو يرتدع، وليس لديه الاستعداد لتغيير سياساته لصالح أحد، إلا في حالتين: إذا سال دمه، وإذا نقصت الدولارات في جيبه. أميركا تحترم الأقوياء، أما الضعفاء فهم مجرد أرقام في بورصات مصالحها وحساباتها السياسية. بالمناسبة، "صداقة" أميركا أكثر كلفة من عداوتها، ونضع كلمة "صداقة" بين مزدوجتين. لا أصدقاء لأميركا، فإما أنداد أقوياء أو تابعون يؤمرون ويطيعون.
المفتاح الثاني: أميركا لا تعطي إلا بقدر ما تأخذ وزيادة، مقابلًا مقدمًا. هذا المقابل، قد يكون المال ممن يتوفر في خزائنهم. وإذا لم يتوفر المال، فالمقابل سياسي واستراتيجي في خدمة سياسات أميركا ومصالحها، من خلال التواجد العسكري و"التعاون" الاستخباري والتبعية السياسية. وقد تحصل أميركا على هذه الأثمان كلها، مقابل ما تعطي.
ثالثًا: منذ خمسينيات القرن الفارط، اتجهت أميركا لتحقيق صلح بين العرب واسرائيل، يخدم مصالحها ومشاريعها في منطقتنا. وإذا لم يتأتى لها تحقيق هذا "الصلح" بالإقناع"، فنقيضه حاضر، أي "الفرض" بالتهديد والابتزاز. وفي الحالتين، يدُ الكيان الصهيوني يجب أن تكون هي العليا في هذا الصلح. وقد حققت أميركا اختراقات في هذا الجانب، بتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد، وما تأدت إليه "مسرحية مدريد للسلام"، ونعني "أوسلو" و "وادي عربة" واتفاقيات ما يُعرف ب"السلام الإبراهيمي". وترى العقلية الأميركية، التي استقر فيها أن بمقدورها شراء كل شيء بالمال، كما قلنا، أنها دفعت أثمان السلام الذي تحقق وفق الرؤية الأميركية بما تقدمه من "مساعدات" للدول العربية الموقعة اتفاقيات مع العدو.
قلنا حققت أميركا اختراقات، لكن مخططاتها والكيان الشاذ اللقيط لم تكتمل ولن تكتمل بفعل المقاومة، أمل أمتنا، المقاومة ضد العدو وداعمه الرئيس أميركا. المقاومة دائمًا في الجانب الصحيح من التاريخ، وخاصة ضد عدو لقيط شاذ واستعماري احلالي يعاني من تراكمات عُقد التاريخ. عدو نشأ خلافًا لنواميس التاريخ ومنطق الجغرافيا، وهو زائل بحكمها لا محالة.

*محاضرة ألقيت في المنتدى العربي في العاصمة الأردنية عمان.
يوم الثلاثاء 17/9/2024 .

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي