تأثيل السلام

المنصور جعفر
2024 / 9 / 10

هذا تمحيص وتأثيل للجزء الفلسطيني والدولي الحضور من تعامل الصهاينة بإصطلاح "السلام" وعبارات "تحقيق السلام " و "الدفاع عن السلام" تأثيل يحول تبيان تغير المحتوى الجغرافي السياسي والاقتصادي السياسي والثقافي الإجتماعي لأمور السلام في فترات مختلفة تقارب كل منها عشرة أعوام دموية منذ ما قبل عام 1904 إلى عام 2024.

1 - الفهم الأول للسلام:
■ بجهود مختلفة بدأت محاولات تنظيم يهود العالم بتأسيس "الاتحاد الإسرائيلي العالمي" في باريس عام 1860 ليحدد ويرعى أمور اليهود وبرعايته تأسست رابطة "أحباء صهيون" في شرق أوروبا.

■ اختلفت الحياة في جانبي أوربا في في الثلث الأخير في القرن الـ19 كان وضع غالبية اليهود في عموم أوروبا كوضع غالبية أهلها مزيجاً من البؤس والفاقة لكن في غرب أوروبا الاستعماري الكبير تميز بعض يهود نخبة بمناصب وجاه اكبر من يهود نخبة وسط أوروبا حيث إمبراطورية النمسا ألمانيا المجر ونخبة يهود شرق أوروبا حيث إمبراطورية روسيا فكانت أنشطة عموم اليهود في المناطق الجرمانية والروسية أكثر جمعية وعناية بشؤون البقاء وأحوج للهجرة إلى فلسطين.

■ تطلعاً إلى مستقبل حافل بالعدل والسلام بدأ نهوض جمعي لليهود منه عام 1882 في مدينة خاركوف الروسية (الأوكرانية) تأسست جمعية "بلو" للشباب اليهودي وفي عام 1883 تأسست في فيينا النمسا جمعية "خدمة" وفي 1884 نشأت في شرق أوروبا جمعيات "أحباء صهيون" وكذلك جمعيات لطلاب جامعات حين كانت الدراسة الجامعية ترفاً ومفتاح مستقبل أيسر عملاً ودخلاً. وقد مثلت كل واحدة من جمعيات اليهود رابطة لوجودهم ونشاطهم القومي لمجتمعاتهم الصغيرة في أوروبا التي شمخت فيها ثقافة الايديولوجيا القومية/الوطنية Nationalism ضد ثقافة الميثولوجيا المواشحة قيم الإمبراطورية والحكم الديني التأطير التي كانت قد بلغت قمتها وبدأت تناقضاتها تتفاقم ومعها زيادة في حالات إضطهاد وحرق بعض قرى اليهود في شرق أوروبا .

■ مع تأجج السياسة القومية/الوطنية في أوروبا توافقت تلك الجمعيات مع أنشطة يهودية أخرى في مختلف الإمبراطوريات يواشجها هم تضميد جراحات اليهود من مآسي الاضطهاد وويلات حملات الإحراق والتدمير النخبوية أو الغوغائية على مجتمعاتهم في شرق ووسط أوروبا وهم ثاني برصد الأخطار القادمة على مجتمعهم وتبين سبل النجاة منها.

■ بالامكان تصور ان تضميد جراح الاضطهاد المتفرقة وإمكان سبت يرضي به ربه كان هو أقصى ما يتخيله اليهودي الكادح المضطهد عن طبيعة أو ضرورة السلام بينما كان كثرة من يهود النخبة المواشجين للأوروستوقراط والبرجواز يحققون سلامهم النخبوي بشكل شخصي بالتميز الحرفي والتجاري وبدفع زكوات وصدقات لمجتمعهم الديني.

■ في كل هذه الأمور أي في أمور الجمعيات والمعونة المجتمعية وأمور التميز الحرفي والتجاري كان مبدأ الفهم اليهودي للسلام كما هو عند كل البشر مؤسساً على الأمان الفردي والسلامة الشخصية ولكن نتيجة تتالي حملات الاضطهاد عبر القرون فقد واشج ذلك المبدأ الطبيعي قدر كبير من التفكير في البقاء وإمكان نجاة الفرد من الأذى. في معادلة (السلام = بقاء الفرد اليهودي)



2- الفهم الثاني للسلام:
■ في عام 1884 أسس القانوني والطبيب ليون بنسكر رابطة "أحباء صهيون" لتشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين وفي عام 1890 جمع الأديب ناثان برنباوم أفكار الخلاص وعزز بها فكرة هجرة اليهود إلى فلسطين وسمى الفكرة "الصهيونية" وبدأ تنظيم الصهاينة وسايره ثيودور هرتزل بكتابه العمدة "الدولة اليهودية" وبجهدهما وآخرين إنعقد في بازل في سويسرا المؤتمر الأول لمندوبي الجمعيات الصهيونية في 1897 وتأسست المنظمة الصهيونية العالمية وتغيرت صيغة السلام من معادل لبقاء اليهودي حياً إلى معادل الهجرة إلى فلسطين (السلام = الهجرة إلى فلسطين).
(لأسباب مثالية تحول بورنباوم وبعض مؤسسي الصهيونية إلى عدو ثقافي لها حيث تركوها بعد هجرتهم الى فلسطين واصطدامهم بممارسات بعض زعماءها أو اتباعها)

■ في 1904 طلب الاتحاد الصهيوني البريطاني من مكتب المحاماة لويد جورج وروبرتس للعمل على تحقيق مطلبهم لإقامة كيان لليهود خارج أوروبا. وفي الفترة من 1905 إلى 1916 أصبح ديفيد لويد جورج وزيراً للتجارة ثم وزيراً التمويل ثم وزيراً للحربية وفي عام 1916 أصبح رئيسا للوزراء. كان قد نشأ على الصهيومسيحية وخلال أعماله تعرف على أهمية النخبة اليهودية في أمور التجارة والمال وعلى أهمية الشرق الأوسط ورغبة اليهود وحاجتهم إلى الوجود في فلسطين وإمكان استفادة بريطانيا من كل هذه الأمور.

■ عندما بدأت الحرب العالمية الأولى 1914 كان ديفيد لويد جورج وزيرا للمالية وحدث وزير الحكومات المحلية هربرت صموئيل عن موضوع اقامة دولة لليهود في فلسطين وفي 9 نوفمبر 1914 بعد أيام من إعلان بريطانيا الحرب على الإمبراطورية الإسلامية وجه الحكومة ببحث الموضوع وفي يناير 1915 قدم هربرت صموئيل مذكرة عنوانها "مستقبل فلسطين" أقرت توطن اليهود فلسطين في كيان تابع لبريطانيا يحل جزئاً من أزمة يهود أوروبا ويفتح لبريطانيا دوراً أكبر في العالم مع وجود كذا مليون يهودي في أمريكا.

■ وضح جهد الصهاينة لتأسيس دولة تقيهم وتعينهم وتقويهم بداية من مذكرة "مستقبل فلسطين" فـ"إتفاقات سايكس بيكو" (نوفمبر 1915- مايو 1916) ثم معركة بئر سبع 31في أكتوبر 1917 وبداية إحتلال بريطانيا فلسطين فإعلان اللورد بلفور في 2 نوفمبر 1917 فالدعم الأمريكي السخي لبريطانيا ضد ألمانيا ثم اتفاقات مؤتمرات باريس وسيفر وسان ريمو 1919-1920 فقرار عصبة الأمم بانتداب بريطانيا لتسيير شؤون فلسطين فترة عامين (استمر إلى 29 أبريل 1948 وبه أصبح هربرت صموئيل أول مفوض أول يهودي يحكم فلسطين) كل هذه الجهود الصهيونية جعلت لكلمة "السلام" معنى حق كل مجتمع في فلسطين في الوجود (السلام = وجود عربي ووجود يهودي).



3- الفهم السياسي الكبير للسلام:
■ منذ الزمان القديم والى ثلاثينيات القرن العشرين كان فهم السلام عند الصهاينة للسلام مواشجاً حق اليهودي كإنسان في كرامة وجوده وسلامة جسمه وممتلكاته الشخصية لكن في الزمان الحديث ضعفت سلامة اليهود مع تأجج النزعة القومية/الوطنية وفواتها الحد بحكم اشتعال الحرب العالمية الأولى وقيام البنوك الامريكية بما فيها البنوك الألمانية التغذية بتمويل انتصار بريطانيا على المانيا فبنفس الصيغ الوطنية التي رعاها أنبياء الحداثة تم تحميل ألمانيا والنمسا والدولة العثمانية كل أوزار تلك الحرب فزاد فيها شقاء المعيشة. صار بالامكان وضع الامور في بسيطة معادلة (السلام-= عقاب ألمانيا).

■ آنذاك في واقع التفاوت الوطني كان وضع نخبة اليهود في بريطانيا أقوى من وضع نخبة اليهود في المانيا حيث بدات الاتهامات تنهال عليهم بالخيانة وتمويل الأعداء وكذلك نالت الاتهامات العمال اليهود انهم يحاربون التطور الصناعي الألماني بالإضرابات وكذلك تضاعفت إتهامات الغش على التجار والمقاولين اليهود ووصم الشباب اليهود بالاستهتار والصحافيين بالابتزاز والتشهير وزادت الحكاوى التي تربط أهل الغناء والتمثيل بالإفساد ناهيك عن التلفيق والمبالغة في قصص الانحلال وقصص الجريمة. في معادلة (سلام ألمانيا = إقصاء اليهود)

■ في الفترة من عام 1918 إلى عام 1933 تغير بقاء الانسان اليهودي السلف في البلاد الألمانية اللغة أو النفوذ ففي عالبية تلك الفترة صار وجوده على قيد الكرامة والمعيشة والحياة أمراً صعباًَ لكن بعد عام 1933 وصعود النازية صار وجود اليهودي في تلك البلاد أمراً معذبا أو مميتا.

■ منذ مئات السنين حتى عام 1918 وسيطرة نظم الجمهورية والمواطنة كان يهود أوروبا محرومين من تملك أرض زراعة أو مساكن في الممالك المسيحية واقطاعات أراضيها فعاشوا على الحرف والتجارة. في ذلك الزمان كانت إمبراطورية النمسا والمجر وبروسيا الشاسعة المتوسطة بين جنوب أوروبا وشمالها كانت منطقة مريحة لتعيشهم من الحرف والتجارة.

■ بحكم تغيرات الإقتصاد والوضع الدولي والسياسة بعد الحرب العالمية الأولى ومعاهداتها العقابية وهي حرب أسهمت بنوك النخبة اليهودية في تمويلها لتجنب مصادرتها إنهارت سدود نخبتهم المالية في ألمانيا.

■ بنهاية قدرات البنوك في ألمانيا على التمويل وامتناع بناتها واخواتها في أمريكا عن تمويل جهود بنك ألمانيا المركزي بدأ إفلاس السوق والدولة ومن ثم ضعف وضع المجتمع والسياسة والجيش الألماني وبدأت حالات ضعف في ذخائره وإمداداته إلى وحداته في مناطق الحرب وبشكل متسارع تكاثرت حالات التمرد في أسطوله وفي فرقه.


■ بافلاس البنوك شقيت ككل الناس معيشة وحياة اليهود في كل المناطق الألمانية فهاجر إلى فلسطين حوالي مائة ألف منهم وأيدي سبأ هاجر عدد كثير إلى غرب أوروبا والولايات المتحدة وإفريقيا أي صاروا في تفرق وغربة وشتات. وضع تلخصه معادلة (السلام = الخروج من ألمانيا)

■ وسط تلك الحالة الدموية وما لاقاه المهاجرين في فلسطين والدول الجديدة من عبوس زاد تغير مفهوم السلام الصهيوني الذي بدأ بصيغة سلامة شخصية ومالية ثم نمى ليصبح بمعنى سلامة اجتماعهم في فلسطين فقد زاد نموه في فلسطين وصار مواشجاً لتأسيس دولة لليهود في فلسطين لا مجرد مستعمرات متفرقة في كيان منتدبية بريطانية غالبيتها من غيرهم جعلتهم يعانون فيها الأمرين. من ثم لأغراض الحماية والإعمار وزيادة امكانات هجرة (عودة) يهود العالم صار الفهم الصهيوني للسلام مرتبطاً بتأسيس دولة صهيونية. صارت المعادلة (السلام = إسرائيل).



4- اختلاف معنى إصطلاح "السلام" للدولة:
■ إختلف الفهم الصهيوني لتحقيق السلام متوسعاً من حالة تأمين المجتمعات اليهودية في أوروبا إلى حالة هجرة إلى فلسطين ثم أصبح/صار بمعنى إقامة كيان يحميهم فيها وبعد ذلك صار قبل وبعد تأسيس إمارة الأردن بمعنى تقسيم فلسطين وإقامة دولة مستقلة لليهود فيها.

■ كرد فعل على التغلغل والتوسع في أنشطة المهاجرين اليهود ومحاباة بريطانيا لهم حدثت أكبر إنتفاضة فلسطينية فترة ثلاثة سنوات منذ عام 1936 إلى عام 1939 وتم قمعها إلا انها في تلك الفترة إبان بداية الحرب العالمية الثانية جعلت بريطانيا تعلن انها ستنهي تحكمها في فلسطين بعد عشرة سنوات تهيئة.

■ في 18 أبريل 1946 تولت "الأمم المتحدة" كل أمور "عصبة الأمم" بما فيها أمر فلسطين ورحبت باتفاق بريطانيا وشرق نهر الأردن و قرارها بإنهاء كل أمور انتدابها في 15 مايو 1948. في نفس الفترة مع انهزام الخطة الامريكية البريطانية لإقامة حكم ذاتي فيدرالي يضم مجتمعات فلسطين قررت بريطانيا إرجاع مسألة مستقبل فلسطين إلى الأمم المتحدة.

■ في 15 مايو 1947 كونت الأمم المتحدة لجنة تقرر مستقبل فلسطين من بوليفيا وبنما والفلبين والدنمارك وتشيكوسلوفاكيا اقترحت مع تعصب مجتمعات النزاع تقسيم فلسطين بينهما وفي 29 نوفمبر 1947 وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة بـ 33 ضد 13 وإمتناع 10 دول عن التصويت على المقترح في ما عرف بالقرار رقم 181 وهو ككل قرارات الجمعية العامة قرار طوعي التنفيذ.

■ أعطى ذلك المشروع أو التصور النظري لمجتمعات اليهود أرضاً على الخريطة تعادل مساحتها 54.7% ولمجتمعات العرب 44.8% وجعل الجزء الديني من القدس/أورشليم منطقة دولية تعادل مساحتها 0.5% من مساحة فلسطين. (توجد اختلافات طفيفة في حساب المساحات تبع القدس والنقب وبالتالي اختلفت النسب المئوية)

■ قبلت الوكالة اليهودية العامة في فلسطين ذلك القرار وشرعت في تحقيقه بينما لم يكن لعرب فلسطين حكومة أو هيئة تمثلهم بشكل دقيق فقد حلت بريطانيا لجنتهم عام 1937 وقد كانت جمعية رد فعلية قليلة التخطيط والضبط والفاعلية تعتمد على الحكام العرب الذين بدورهم كانوا يتوخون العدل والإنصاف من الامبريالية البريطانية.

■ في الأعوام 1948 و1949 وفي 1956 و1967 شنت القوات الإسرائيلية ضربات وحروب متنوعة على القوى والدول العربية انتصرت عليها بفضل التنظيم الدقيق والتقنيات الفعالة وكانت أكبر انتصاراتها عام 1967 بإسهام الأقمار الاصطناعية الأمريكية بتحديد مواقع غالبية المطارات العربية ومن ثم قامت بضرب المطارات وبذلك صارت الجيوش العربية وخطوط إمدادها مكشوفة فاحتلت اسرائيل باقي فلسطين وسيناء وجزء من الهضبة السورية وصار لتحقيق السلام معنى تأمين الدولة بقمع المجتمع العرب داخلها وغزو وإضعاف الدول العربية الرافضة لها. صارت المعادلة: (تحقيق السلام= حرب على الدول العربية ومسانديها واحتلال أراضيهم واستعمالها).


5-السلام مقابل الأرض:
■ في 22 نوفمبر 1967 أصدر مجلس الأمن الدولي قراره رقم 242 الذي نص على احترام سيادة دول المنطقة على أراضيها. وحرية الملاحة في الممرات الدولية. وحل مشكلة اللاجئين. وإنشاء مناطق منزوعة السلاح. وإقرار مبادئي سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط. ولم يحدد القرار 242 أولية تنفيذ بنوده وان مثل خلاصة فهم العالمين الغربي والشرقي لطبيعة السلام وهو فهم لم يكن فيه حضور مستقل الفلسطينيين كشعب بلا دولة ولا ممثل لهم في المحافل الدولية.

■ في فترة 1967 1973 بدأت فترة عرفت باسم "اللاسلم واللاحرب" وكانت أهم أحداثها حرب الاستنزاف التي شنتها مصر وسوريا ونمت المقاومات الشعبية في سيناء والجولان والضفة الغربية ضد بعض مراكز وتحركات الإحتلال الإسرائيلي الذي كان يرد على بعضها من ثم مع نموء القوة العربية جاءت حرب أكتوبر 1973 التي أصابت فيها القوات المصرية والسورية قوات إسرائيل وسندها الأمريكي والغرب أوروبي بهزيمة فادحة.

■ تبعاً لهزيمة الجيش الاسرائيلي تغيرت طبيعة الفهم والمعنى والنشاط الصهيوني لتحقيق السلام وصار لهذا المعنى خطط وأدوات وأهداف جديدة مواشجة للأوضاع الإقتصادية والديبلوماسية والإعلامية الدولية إضافة لمواشجته التقليدية سياسة التفوق في التسلح وأنشطة إضعاف تماسك المجتمعات والدول العربية.

■ كان قوام الفهم الصهيوني لطبيعة تحقيق السلام بعد حربي 1967 و1973 قواماً بسيط المظهر خلاصته مقايضة الوجود العسكري الإسرائيلي الباقي على الأراضي العربية المحتلة بوجود سياسي واقتصادي داخل كل دولة عربية راغبة في إستعادة أراضيها من إسرائيل.

■ بعد حرب أكتوبر 1973 ترافقت الصباغة الصهيونية الجديدة لمعنى تحقيق السلام مع كثرة في إغراءات وضغوط تمويل مارستها القوى المالية العالمية على مصر وقد تدعمت هذه الممارسة الربوية بزيادة كبيرة في إعلام وسياسات النفور من البناء الاشتراكي.

■ حاولت السياسة المصرية التعامل بحكمة إختيار وإنتقاء مع العروض المالية وحققت بها نجاحاً كبيراً في الخروج من أزمة إقتصاد البناء ومن أزمة اقتصاد الحرب ومن أزمة المساعدات العربية الشحيحة منتقلة بأمور الدولة والمجتمع راجعة إلى معالم الإقتصاد الذي كان سائداً في فترة سيطرة الباشوات والخواجات المعتمد على حرية المستثمرين والإستثمارات الأجنبية.

■ كان الإختيار الصعب والذكي والمر بين عروض التمويل والاستثمار يتم في بيئة تعاملات مالية دولية وعربية مسمومة تحكمها منظومات البترودولار ومصالح البنوك العظمى وأولياءها وهندستها الشاملة لغالبية الاقتصادات في العالم، الهندسة التي تتولاها هيئات التمويل الدولية وأهمها البنك الدولي ومجموعته وصندوق النقد الدولي.

■ في الأعوام من 1974 إلى 1977 كان الإختيار والإنتقاء المتاح من العالم الصهيوني الأمريكي لمصر إختياراً محصوراً بين سمين ناقعين سم العقرب وسم الثعبان حيث ان الجهود الصهيونية الأمريكية في مجالات الديبلوماسية والمال والإعلام والشؤون السوفييتية غيرت الأسس الإستراتجية لأوضاع الحرب والسلام بعدما غيرها نصر مصر وسوريا الكبير عام 1973.

■ مع ضعف الإمداد المالي والسياسي العربي لمصر كان قول الرئيس السادات ان 99% من أوراق لعبة السلام في يد أمريكا وصارت أمور السلام الامريكية الشكل تحتوي على خيارين مضادين لتكامل إستقلال وسيادة دول المواجهة العربية: خيار جغرافي سياسي وخيار إقتصادي سياسي، و بالخيارين صار المعنى الصهيوني لــ"تحقيق السلام" يتلخص بمعادلة بسيطة هي: (تحقيق السلام = كسب أرض عربية أو كسب اقتصاد عربي أو الإثنين معاً).

■ كان ولم يزل العمود الأساس لهذه الصيغة هو التقدير الصهيوني الذاتي لفهم الأمن وتحديده تصور وإجراءات تحقيق السلام. ولهذا الانفراد بالتقدير جذور تاريخية لم يتم اقتلاعها أو تصحيحها لا في مؤسسات التعليم والمعرفة الصهيونية ولا في أي من هيئات الاعلام أو السياسة أو الدفاع والأمن الصهيونية بل كانت كل هذه المؤسسات تغذي معادلة (تحقيق السلام = تحقيق الأمن = السيطرة الصهيونية والإسرائيلية على أهم محركات الأمور).



6-السلام مقابل الخضوع:
■ في 29 أكتوبر 1973 بأمر من مجلس الأمن الدولي بدأت في خيمة عسكرية تابعة للأمم المتحدة مباحثات الفصل بين جيشي إسرائيل ومصر سميت بموقعها "مباحثات الكيلو 101" ومع فشلها انتقلت إلى أسوان ثم القاهرة وخلصت إلى مؤتمر سلام في جنيف في 21 ديسمبر 1973 توكد فشله في يوم افتتاحه لامتناع سوريا عن حضوره واختلاف طرفيه على ترتيب موضوعاته.

■ في فترة 1974- 1976 جرى تنشيط الإسلام السياسي وفتح قناة السويس أعيد إعتبار جزء كبير من الراسمالية في مصر وسمح لها باستوراد بضائع إستهلاكية وبالإستثمار في الزراعة والصناعة. وقد سمح هذا التحول لمصر بدخل ريعي كبير من قناة السويس ومن السياحة تم صرف جزء كبير منها في إستوراد بضائع استهلاكية والاستثمار في تجارة المساكن ودخلت البنوك الأجنبية في تمويل كثرة من عمليات التجارة والاستوراد ورافق ذلك سيل من المنح والديون الغرب أوروبية والأمريكية للدولة المصرية وكلها موارد خارجية ومتذبذبة.

■ عرفت هذه السياسة الإقتصادية ذات التمويل الأجنبي والاستوراد العشواء بإنها سياسة مضادة لأسلوب التنمية المخططة وسميت "سياسة الانفتاح". وقد سببت هذا الانفتاح إنخفاضاً كبيراً في قيمة الجنيه الشرائية وزيادة في خلل توزيع الموارد الذي بدوره فاقم ظواهر الهجرة والطفيلية والفساد و"السح الدح امبو" والتطرف الاسلامي وبداية تغلغل ونفوذ أنشطة دول غرب أوروبا وأمريكا في الدولة والمجتمع وزيادة في انقسامات التعليم العام والخصوصي وزيادة إنقسام الأوضاع الثقافية للمجتمعات المحلية من ثم في 18 و19 يناير 1977 انفجرت انتفاضة الخبز في مصر دالة إلى وجود أزمة كبيرة في أمور المعيشة والسياسة وقف فيها الشعب المصري ضد سياسات الغلاء والفساد وصار الحكم في حاجة لتحقيق انتصار سريع يدعم مشروعيته.

■ بدأ الإعلام الغربي يضخم تذمر بعض المجموعات المصرية من الوضع الاقتصادي والسياسي وفي نفس الفترة بدأ نفس الاعلام والديبلوماسية الغربية في تدعيم إتجاهات السلام وما يحمله من إمكانات نهاية الأزمات الإقتصادية وبداية الرخاء إضافة إلى سيل من الإشادات بعقلانية وإنفتاح القيادة المصرية واخراجها مصر من حروب لا تخصها (حسب تعبيراتهم)

■ من ثم رغم توفر وسائط الاتصال قام الرئيس السادات في 19 نوفمبر 1977 بزيارة إسرائيل ليقدم عرضا للسلام قبلته اسرائيل انتهى الى اتفاق القاهرة في ديسمبر 1977 ثم إجتماعات وإتفاق "كامب ديفيد" في 17 سبتمبر 1978 ثم "معاهدة السلام" في 26 مارس 1979.

■ قامت "كامب ديفيد" على مبادرة الرئيس كارتر التي أسهمت فيها هيئات أمريكا الإستراتيجية الحربية والدفاعية والديبلوماسية والمالية والإعلامية وشملت خمسة معالم هي:
1-ان تشمل كل جيران إسرائيل 2-ان تستند إلى القرار 242 وتنفيذه بعد إكمال إجراءاته 3- ان تفتح بمقتضاها الحدود والتجارة للإسرائيليين والعرب، 5- يسمح للفلسطينيين بتأسيس حكم ذاتي مستقل وليس دولة.

■ عملياً دلت هذه المعالم على توفير السلام الإقتصادي الإجتماعي لإسرائيل قبل قيامها باعادة الأراضي التي احتلتها في 1967 وقبل إرجاع وتأمين حقوق الفلسطينيين. من ثم عقدت معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في 26 مارس 1979 وبها استعادت مصر بشكل تدريجي الباقي من سيناء وجزء مهم من سيادتها عليها وسبق ذلك مرور سفنها مايو 1979 السماح لإسرائيل بوجود ديبلوماسي 26 فبراير 1980 وبالتعامل التجاري. من ثم زادت إمكانات النشاط والتغلغل الأجنبي في الاقتصاد المصري.


■ بـ"اتفاق كامب ديفيد" تغير ترتيب قضايا تحقيق السلام بحكم تعقد القضية الفلسطينية وتم تأجيل تحديد محاسبة المتهمين الإسرائيليين بارتكاب جرائم الحرب وكذلك خف وزن قضية التعويض عن النفط المستخرج من سيناء فترة الاحتلال كما ان رئيس حكومة اسرائيل اعلن رفضه إخلاء أي منطقة في الضفة الغربية والهضبة السورية وغزة.

■ بشكل عام لم تخضع مصر لمماطلات و ابتزازات واغراءات كثيرة بل انتزعت حقوقها من أنياب الصهيونية ومع ذلك زاد تفكك التناغم النسبي بين الجمهوريات العربية الذي ساد في الستينيات وكان مقدمة لتغيير كبير في العالم وفي قضية السلام لو استمر.

■ لعل أهم أسباب الضعف العربي قلة حنكة القادة العرب ونخبوية السياسة وضعف البناء الديمقراطي الشعبي في الجمهوريات العربية حيث اتسمت بعض قرارات الحكام بالانفعال مع أو ضد السلام إنفعالاً زاد التفاوت بين استراتيجيات الحرب واستراتيجيات السلام وكذلك زاد تفاوت التاكتيكات داخل كل استراتيجية. سواء كانت استراتيجية حرب أو كانت استراتيجية سلام. لذا شاب تفاوت الآراء والمواقف أمور التنسيق والتفاوض العربي وصار كل جزء منه يغني على ليلاه.

■ كذلك أدت سيطرة النخب على أمور صديقهم العجوز اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية حيث اتسمت بعض قراراته بالبرود إزاء إضطهاد الحكام بعض التيارات الشيوعية وكذلك اتسم بسخونة في الترحيب بمواقف الحكام الثورية النخبوية والثقة فيها دون احتياط لمستقبل تأثير ابقاءها على ليبرالية التجارة والمعيشة وتكريسها نخبوية العمل الحكومي.

■ أدت هذه الأمور العربية والأمور السوفييتية التي سبقت "إتفاق كامب ديفيد" إلى تفاوت تقدير وحساب الدول العربية لأمور السلام وقراراتها بشأن تحقيقه.

■ بتأثير "كامب ديفيد" أدى تفاوت ترتيب الإستراتيجيات والتاكتيكات داخل كل طرف وكذلك بين مختلف الأطراف لضعف عربي كبير في مباحثات واتفاقات السلام اللاحقة وهي:

(أ) "اتفاق أوسلو" 13 بين إسرائيل والفلسطينيين، 13 سبتمبر 1993

(ب) "اتفاق وادي عربة" بين إسرائيل والأردن، أكتوبر 1994،

(ج) قمة كامب ديفيد الاسرائيلية-الفلسطينية، 11 إلى 25 يوليو 2000،

(د) إتفاقات ابراهام بين اسرائيل ودول الإمارات والبحرين والسودان والمغرب 2020.

■ كان نجاح هذه الاتفاقات محدوداً بالمقارنة مع كلام دولها عن القرار 242 وقد تمثل أقصى نجاحها في إنهاء رسمي/شكلي لحالة الحرب وسماح للبزنس الصهيوني الارتباط بالنشاط الاقتصادي داخل الدولة العربية مقابل جزء من أرضها المحتلة 1967 وبضعة اشارات إلى أزمة حق الفلسطينيين في العودة إلى مناطقهم وتأسيس دولة مستقلة لهم.

■ بني هذا النوع من السلام بإرادة وترتيبات مالك أقصى درجات القوة النفسية والمالية والإعلامية والديبلوماسية والذرية وكل قوة الإمبراطوريات الأمريكية والغرب أوروبية.

■ بهذه المعالم السياسية والاقتصادية والديبلوماسية الدولية يبدو نجاح الاستراتيجية الصهيونية في تحقيق السلام كيفما أرادت وزادت به ضعف وتخاصم الأطراف العربية وجعلها قاعدة أزمات.

■ كانت البداية بعشواء الإقتصاد الليبرالي والأزمات الطبقية والسياسية المتوالية الناتجة من فروقه وتوتراتها الداخلية وزيادة نفوذ التمويل الدولي والتجارة الخارجية على السيادة الوطنية والتماسك الإجتماعي السياسي مفقداً الدول العربية أهم امكانات المعيشة المستقرة وأهم إمكانات القدرة العسكرية من ثم غرقت في الذلة والمسكنة بالأزمات المتوالية والحلول الجزئية المتفرقة.

■ بشكل عام انتصر أسلوب التخطيط والتنظيم الصهيوني الاسرائيلي والعالمي الدقيق لأمور تحقيق السلام على عشواء ردود الفعل العربية.

■ ساعد على تحقيق هذا الانتصار المؤقت التاثير السلبي للنفوذ الاقتصادي الأجنبي على أوضاع الدول العربية وتأثير سياسة إسرائيل وأمريكا في عرض السلام بشكل متفرق على كل دولة من الدول العربية المواشجة للموضوع الفلسطيني مقابل أراضيها المحتلة عام 1967 وتأجيل بحث الازمة الفلسطينية وهي أساس ولب القضايا وبالتالي إزاء تفاوت العرض والتأجيل تفاوتت حسابات وقرارات الدول العربية حول الحاضر والمستقبل.

■ بحكم كل هذه العوامل أصبح/صار بالامكان تلخيص التحقيق الصهيوني للسلام آنذاك في معادلة (تحقيق السلام = الأرض بدون عسكرة والسوق المحكوم بامتيازات الاستثمارات الأجنبية). فبدون عسكرة عربية وبتحكم غير مباشر في اقتصادات العرب تمتعت إسرائيل بسيطرة كبيرة وسلام.



7- السلام بمستعمرات حرة وأوطان معتقلة:

(أ) المستعمرات اليهودية:
■ برعاية آل روثشيلد اهتم موسى مونتفيوري عبر بريطانيا وإسحاق كريمية عبر فرنسا ووكلاءهم في فلسطين لامور اليهود في أوروبا وتحويلهم من حالة المضطهدين والمطرودين والنازحين الى حالة منتجين مستقرين في فلسطين.

■ أسس "الاتحاد الإسرائيلي العالمي" مدارس فرنسية في غالبية دول البحر الأبيض المتوسط أنتجت نخبة عقلانية عززت السياسة الحديثة في العالم عامة وفي الشرق الاوسط. من ثم ساعد تحسن التعليم ومكاسبه المعيشية والتجارية والظروف الدولية على نموء ظاهرة إمازات التجارة الأجنبية في الدولة العثمانية مقابل الامازات القديمة التجار العثمانيين داخل الدول الأوروبية. وبذلك تساوى تجار الجانبين في الامتيازات وكان ليهود الجانبين بفضل نظمهم في الصيرفة القدح المعلى في الإفادة من نظام امازات التجارة والاستثمارات الأجنبية في الجانبين.

■ في عام 1870 أسس الإتحاد "مكيفة إسرائيل" (= أمل إسرائيل) وهي مدرسة زراعية داخلية متكاملة على مساحة 750 فدان وكانت أول شبه مستعمرة يهودية في فلسطين وفي عام 1878 تأسست مستعمرة "بتاح تكفا" ومعنى اسمها "بوابة الأمل" كأول مستعمرة (صهيونية) في فلسطين وقد ترسخت عام 1882 بعد معركتين دمويتين مع الأهالي ومعارك قضائية وبعدها أنشئت 19 مزرعة استعمارية بجهد ومبادرة بعض أعضاء روابط "أحباء صهيون" وحدثت كل هذه التأسيسات قبل ان ينعقد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل سويسرا عام 1897.

■ بقيام بعض المرابين بإغراق بعض المزارعين في الديون وبالضرائب العثمانية الباهظة تشكل نصلي المقص الذي قطع صلة بعض الأهالي بالأرض ودفعهم لبيعها لتجار محليين يبيعونها لمن يدفع أكثر وقد كان كثرة من المشترين وكلاء ليهود راغبين في التوطن.

■ منذ عام 1516 إلى عام 1867 منعت الإمبراطورية الاسلامية أي أجنبي (خواجة) من تملك أرض في فلسطين التي كانت -ولم تزل- جزئاً من بلاد الشام/ وهي مثل كل الاراضي العثمانية مقسمة إلى ستة أنواع: 1- أرض وقف 2- أرض ملك، 3- أرض ميري: (أ) لأهل الدولة (ب) للطرق والأسواق والجيش والشرطة و الأغراض العامة، 4- أرض مهجورة اكثرمن 3 سنوات، 5- أرض موات لامالك لها ولا نفع منها، 6- أرض مستعادة من المهجورات أو مصادرة.

■ رغم صدور القانون العثماني لتسجيل الاراضي عام 1858 فان تسجيل أرض لاسم فرد بقى من من الأمور الشاذة الغريبة اذ كانت الأراضي في الريف ملك العشيرة وأهل القرية وفي المدن ملك العائلة وبذلك التحديد العرفي لم تكن الأرض سلعة تحتاج إلى تسجيل أو رخصة.

وكان تسجيل ملكية الأرض يجر على المسجل دفع ضرائب ورسوم سنوية مرتفعة وكشف مال وحال وعنوان ودفتر عائلة بسهل طلب أفرادها للخدمة العسكرية يسمح بتدخل موظفين الحكومة الأغراب في شؤون عائلية كما ان تسجيل الأرض لإسم شخص معين يحدث خلخلة في الأسرة أو العائلة وقد يدخلها التزامات ديون رهن لا ترضاها أو يربح منها الشخص بمال غيره، كما إن أمور الزراعة الكفائية والسكن لم تكن تحتاج لتفريد تملك الأراضي أو تجارتها.

■ بعد إصدار قانون 1858 تغيرت بضعة أمور فبمساعدة أو رشوة موظفي الامبراطورية الاسلامية استولى بعض أثرياء بيروت ودمشق على بعض أراضي الميري والمهجورة والموات المستعادة في مختلف أنحاء الشام وفلسطين وأصبحت مصدر دخل لهم بينما بقى المزارعين البسطاء في قرى الريف غائبين أو مغيبين عن حقيقة تسجيلها.

■ حتى نهاية الانتداب البريطاني عام 1948 لم تتغير هذه المفارقة بل زادت قليلا بعد سيطرة الدولة الإسرائيلية التي سببت سياساتها الحربية تهجير عدد كثير من اصحاب الارض المباشرين وتحولت كثير من اراضيهم إلى منفعة لهيئة "إدارة أملاك الغائبين" وأمثالها من هيئات السيطرة الإسرائيلية على الاراضي التي كانت فلسطينية المجتمع.

■ منذ عام 1881 إلى عام 1918 تاريخ هزيمة الإمبراطورية الإسلامية وسيطرة بريطانيا وفرنسا على ممتلكاتها منعت إمبراطورية الاسلام اليهود -ولو كانوا عثمانيين- من حق تملك أي أرض في فلسطين. لكن اليهود الراغبين في التوطن والاستعمار تجاوزوا هذا المنع العنصري عبر نظام التوكيلات وعبر الايجارات الطويلة من الملاك اللبنانيين والسوريين وكانت نتيجة ذلك نتيجة ضعيفة حيث تمكن طامعو الاستعمار من التحكم في فقط 6% ستة في المائة من مساحة فلسطين غالبها قرب الساحل الشمالي الغربي. وكان جزء من هذه النسبة القليلة مجرد ملكية على الورق تستعمل للرهن والدفع والقليل منها تحول لمستعمرات.

■ باتفاقية السلام مع مصر قامت إسرائيل عام 1982 بتفكيك 18 مستعمرة في سيناء وفي عام 2005 فككت 21 مستعمرة داخل غزة و4 مستعمرات في الضفة الغربية لنهر الأردن من ثم بقيت 176 مستعمرة وأكثر من 180 نقطة توسع إستعماري، وعند تصنيفها يتراوح سكان الواحدة بين عشرات وعشرات الألوف كما تقسم إلى دينية وعلمانية وخشنة الأعمال وناعمة.

■ منذ ثمانينيات القرن العشرين يزداد تعداد الأنشطة الإستعمارية وتتوسع وحدات كل منها، وتزيد مساحة "مناطق الأمان" حولها كما ان الطرق الرابطة كل مستعمرة بأقرب مدينة أو قرية إسرائيلية تسهل نموءها وتمددها وفي ذات الوقت بما فيها من نقاط تفتيش واهانات عسكرية للفلسطينيين فإن هذه الطرق تقطع إتساق تواصل واقتصاد الأراضي والقرى التي لم يتم تهجير الفلسطينيين منها وتعرقل حركتهم وتخنق وجودهم.

■ مع تغير الوضع الإداري للمستعمرات تراوح تعداد المستعمرين بين نصف مليون وحوالي مليون وقد لزم كثرة من المستعمرين المتدينين القدس واريحا الخليل ولزم المستعمرين العلمانيين الأرياف. والمستعمرات الكبرى 14 مستعمرة يزيد عدد سكان كل منها على 50 ألف بينما متوسط عدد سكان غالبية المستعمرات آحاد الألوف. وإجمالاً يشكل عدد المستعمرين نسبة مئوية تقل عن 10% من مواطني إسرائيل لكن وجودهم في هيئات قيادة السياسة والديش يبلغ أكثر من 40% وفي عمليات الحرب وعمليات السلام والكلام عنها يشكلون غالبية شؤون إسرائيل.

■ لم يؤدي تسهيل الهجرة إلى إسرائيل وتأسيس المستوطنات وانتشارها وتمددها وكثرة الكلام عن فوائدها الاستعمارية أو عن اضرارها على التماسك الاجتماعي إلى تغير كبير موج فمنذ عام 1980 لم تفد حركة الهجرة والاستعمار الإقتصاد الإسرائيلي كونه إقتصاد معتمد على تلقي المعونات وديونه 150 بليون دولار وهو اقتصاد نوعي التقدم قوامه تجارة الماس وبيع الخدمات والبرامج الحاسوبية والصناعات الكيميائية، كما ان زيادة السكان بتناسل المستعمرين لم ولن تفيد القوة العسكرية حيث ان التسلح الحديث بالصواريخ والمسيرات لم يجعل لكثرة السكان فائدة حربية بل يحتاج زيادة مرهقة في جهد حمايتهم، وقد زادت ثقافة المهاجرين الروس والاثيوبيين شقوق الاختلاف الاثني والطائفي بين اليهود وخلخلت الاتساق السياسي الإسرائيلي وغيرت فلسفة أعمال الدولة من العلمانية إلى الثيوقراطية ومن عواقب هذا التحول زاد توتر الأوضاع السياسية بين مجموعات اليهود داخل إسرائيل وخارجها.

■ من كل هذه التغيرات المتفاقمة صارت معادلة تحقيق السلام في واقعها الصهيوني أقرب إلى النتيجة الصفرية حيث (سلام إسرائيل = نزاع يهودي-يهودي)

(ب) الأوطان المعتقلة:
■ في عام 1914 كانت فلسطين 27000 ألف كلم مربع يسكنها 690000 ستمائة وتسعون ألف إنسان 8 % منهم يهود العرق والديانة والباقين غالبيتهم من الاثنية العربية بديانتيها الرئيستين المسيحية والاسلام، وكان السكان يعيشون في 1300 تجمع سكاني يتنوع الى قرى ومدن، وفي عام 1948 فات عدد السكان مليوني إنسان ولكن تأسيس إسرائيل في تلك السنة أصاب أكثر من 770 قرية أتلف منها 531 قرية وهجر جزء من سكان قرى أخرى وترك ثالثة بلا حول ولا قوة.

■ إبان العقدين بين عام 1948 و1968 تم تهجير حوالى مليون إنسان أي نصف عدد الفلسطينيين آنذاك وزادت نسبة اليهود في جملة عدد السكان إلى 31 % وبعد عام 1967 شملتت السيطرة الإسرائيلية 85 % من مساحة فلسطين بعد ان كانت في أربعينيات القرن العشرين أقل من 10% كما ان الهيمنة الصهيونية صارت تشمل كل مساحة فلسطين والدول العربية وضمن هذا التحول صار عدد السكان اليهود أكثر من 7 مليون أي حوالي 75% من السكان داخل خط السكان لكنهم يتمتعون بحقوق وإمازات أكثر من سكان الأرض الأصليين.

■ بشكل عام يبلغ عدد الفلسطينيين نهاية عام 2024 حوالى 15 مليون نسمة يقيم منهم 7.2 مليون منهم داخل فلسطين التاريخية و6.5 مليون في الدول العربية وأقل من 1 مليون في أوروبا والأميركات، 37% منهم تقل أعمارهم من 15 سنة و4% اكثر من 65 سنة وقد انخفضت كثافة الأسر من 6 افراد عام 2007 إلى 5 أفراد في عام 2023.

■ وفق إحصاءات عام 2023 بلغ عدد الشهداء منذ عام 1948 100 ألف شهيد يضاف لهم شهداء حرب 2023 2024 في غزة اكثر من 40 الف شهيد ومع إضافة شهداء في بلدان عربية أو تحت جنسيات اخرى يقترب مالعدد إلى 150 ألف شهيد ومعهم على الاقل ضعف هذا العدد من الجرحى وحوالي 20 ألف حالة سجن واعتقال ومليون حالة توقيف او احتجاز أو تحقيق ميداني وبضعة آلاف حالة اختفاء.

■ في الفترة الأخيرة خارج حياة المقابر والسجون والمشافي دمرت القوات الإسرائيلية اكثر من نصف مليون مينى سكني بينما يعيش حوالي 2 مليون في 58 منطقة سكن مؤقت (مخيم) أسستها الوكالة الدولية لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين منها 27 منطقة في الضفة الغربية وغزة و12 منطقة في لبنان و 10 في الأردن، و9 في سوريا. وهي مناطق صممت أصلاً في اوائل خمسينيات أواخر ستينيات القرن العشرين لإعاشة عدد محدود من اللاجئين لفترة محدودة لكن تضاعفت فيها أعداد اللاجئين الفلسطينيين ولم تزل تتضاعف فوق طاقتها بسبب تواصل موجات الحروب والتهجير وبسبب الولادة وعدم الترخيص للاجئي الفلسطيني بالتوطن أو بالانتقال إلى مدن ومناطق أخرى في نفس الدولة ومنع توسيع المخيم ومكان السكن وصعوبة استخراج وثائق سفر أو إذن دخول إلى بلاد أخرى بما ذلك تصاريح دفن الموتى، من ثم تحولت كل منطقة منها إلى ثلاثة حالات حالة تسخين وحالة تعفين.وحالة شبه ميتة زائداً حالة رابعة بين بين.
ا
■ بهذا التباين بين حرية الاستعمار الصهيوني وتحول الوطن الفلسطيني إلى سجن واقعي وأمل صار فهم السلام الصهيوني يأخذ شكلا يمكن تلخيصه بمعادلة (السلام= ضرب وقمع الفلسطينيين)


8- السلام بضرب المناطق المعتقلة:
■ في أعوام 1948 و1967 وما بعد كل منها قامت القوات الإسرائيلية بضرب مئات القرى والمدن الفلسطينية وتهجير أهلها وإزاء بقاء وتمسك ملايين الفلسطينيين بالبقاء في مناطقهم أو قربها بدات منذ السبعينات حالة من جديدة من حالات الحرب الهادفة لضمان امن اسرائيل واستمرار سيطرة وهيمنة نخبتها وجيشها على كل فلسطين.

■ بشكل نسبي متفاوت عمدا أو عفوا شملت أعمال النوع الجديد من إجراءات حفظ الأمن والاستقرار الاسرائيلي:

1- عزل وضغط المناطق الفلسطينية جملة أو بعض أجزاءها وبعض أحيائها وحتى بعض بيوتها وتطبيق شرعة العقاب الجمعي على أفعال جرمية/مقاومة ارتكبها أفراد.

2- تصعيب الحقوق البسيطة للإنسان الفلسطيني مثل الحق في التنقل والحق في تغيير محل الإقامة والحق العمل والحق في السفر وحق الشكوى وحق المقاضاة.

3- توسيع نطاق الاتهامات الأمنية والمحاكم العسكرية واساءة أعمال الاعتقال والتحقيق والاستجواب بشكل يحط من كرامة المعتقل ويمس بانواع من التنكيل والتعذيب سلامة جسم المعتقل وحياته.وكذلك نصب المحاكمات المختلة وإصدار القرارات والأحكام الجائرة.

4- حرب المجال المالي فرض كثرة من الرسوم المالية والضرائب والغرامات على الفلسطينيين وتحفيز وإعفاء الأنشطة الاستعمارية وتخفيف العقوبات المالية على الاسرائيليين.

5- في المجال الأمني المباشر شملت الحرب الجديدة زيادة عددية ونوعية في أنشطة الرقابة والتجسس وشن حملات الدهم والتفتيش والاعتقال العسفي المرفوقة بكم زائد من العنف اللفظي والبدني وكذلك إغلاق بعض المؤسسات والأنشطة العامة وسحب التراخيص بعد تصعيب إصدارها.

6- في الجانب (المدني) فشن حملات التخريب بواسطة المستعمرين الذين يشكل بعضهم ميليشيا تزعم الدفاع عن وجودهم لكنهم يمارسون بها حملات التكسيرضد ممتلكات الفلسطينيين وحتى تكسير عظام بعض الفلسطينيين نأهيك عن إتلاف الزراعات قبيل أو بعد الحصاد.

7- في عدد من المرات قامت السيطرة الإسرائيلية بتقوية الأمن والسلام بتحديد أو احتكار استعمال أو ضرب آبار المياه ومحطات تنقية وتحلية المياه وقطع الكهرباء والانترنت وهدم المساكن وتحطيم المشافي وضرب المخيمات وطواقم الإسعاف وقتل الجرحى والمرضى في أسرتهم داخل المشافي ونبش القبور.

8- في الجانب المعنوي والثقافي شملت الحرب أعمال إغتيال معنوي لبعض الدول والمجتمعات والقادة أو الأفذاذ الذين ماتوا أو قتلتهم أو اغتالتهم قوى إسرائيل، وكذلك تحطيم بعض المعالم الثقافية وإغلاق بعض دور النشر والصحف وإتلاف الآثار.

أيضاً قيام السلطات وبعض المتنطعين الصهاينة بانتهاك مقدسات المسيحيين والمسلمين وتشويه بعض المعلومات التاريخية أو المعلومات المعاصرة وتعديلها بشكل مضاد في جزء منه للموضوعية العلمية أو لبعض القيم الإنسانية.

شن حملات اكاذيب على اوضاع سياسية مخالفة للصهيونية داخل أو خارج فلسطين التاريخية وحتى داخل المجتمع الإسرائيلي.

ناهيك عن قذف بعض خيم النازحين والمساجد والمنازل والأسواق والمشافي بصواريخ الطائرات والمدفعية وقنابل الدبابات.



■ تسير كل هذه الامور مع طرح جديد لفكرة التوسع في تأمين اسرائيل بازالة المناطق الفلسطينية وطاعة قرار الكنيست يرفض قيام دولة فلسطينية وهو ما أكدته كمشروع خريطة نتانياهو إضافة إلى تأمين وترسيخ وجود إسرائيل بمحو دول أخرى من خريطة العالم ولو بتقسيمها لعل من بينها روسيا وتركيا إضافة لإمكانية إضعاف وتقسيم وتفتيت كل الجمهوريات العربية ونصف القارة الأوروبية وكل القارة الإفريقية خاصة بعد ان اكتشف المرشح الرئاسي الأمريكي طرمب ان مساحة إسرائيل صغيرة جداً.

■ بحكم فشل النخب الصهيونية والعربية في تاسيس دولة مشتركة أو دولتين متعايشتين فإن الحل الممكن لهذه المأساة التاريخية هو الحل الطبقي البروليتاري وهو ما يقتضي في الجانب الأقوى أي الإسرائيلي التفكير خارج الصندوق والاتجاه إلى مصالحة ودعم التيار الإستاليني في مختلف دول العالم عامة ثم في العالم العربي باعتباره مصدر قوي من مصادر الثقافة الوطنية والأممية الحديثة. لكن إمكان تحقق هذا التحول يحتاج إلى تغييرات عميقة في النخبة الصهيونية.

■ لقد سبرت النخبة والنخب الصهيونية عمليات النزاع والحرب والسلام وفق خبرتها ذات المنطق التجاري القائم على أنانية الربح والانفراد به مع دفع القليل كزكاة تخفف البؤس وهو منطق لا يفيد في وقف جدلية الاستعمار والمقاومة كونه لا يؤمن وجود دولة ولا يسمح بانفراد المقاومة بالسيطرة على شؤون مناطقها أو بالانتصار التام على حركة الاستعمار لذا من الاسلم تبديل المنطق الانفرادي بالمنطق الاشتراكي وهذا أمر يستحيل ان تتقبله النخب المكونة والمشبعة بثقافة الانفراد.




الخاتمة:
■ الجملة التاريخية لهذه الأمور السلبية المختلفة الفترات والكثافة تشبه أعمال إبادة وتهجير السكان الأصليين في فلسطين القديمة وفي شمال أوروبا والاندلس واالامريكات واستراليا ونيوزيلاند وهي أعمال تغيرت إلى الاسوأ فقد نشأت من حالة قيام العنصر الجديد بطلب التعايش مع العنصر القديم كحد أقصى لسلامة وجود العنصرين وصارت حالة مؤلمة كينونتها قيام العنصر الجديد المتقدم التنظيم والتقنية باضعاف ثم ازاحة العنصر القديم الضعيف التنظيم و التقنية.

■ بالنظر إلى حرب إسرائيل على غزة عندما تقرأ مع الأطوار القديمة لموضوع فلسطين في الأدب السياسي الصهيوني منذ عام 1860 إلى 2023 تجعل من السهل على أي منصف وضع الشكل العام للسلام الصهيوني الحاضر بصيغة معادلة بسيطة هي (تحقيق السلام الصهيوني = إبادة وتهجير ملايين الفلسطينيين).

■ مع تقدم وسائل وتقنيات التواصل والحرب والمقاومة يتوكد كل يوم فشل منطق الإقصاء وسلامة منطق التعايش وهو منطق يحتاج إلى تقوية الثقافة الاشتراكية العلمية في غرب أوروبا وامريكا وفي اسرائيل قبل أو مع أو بعد نهاية نظام البترودولار.


انتهى النص

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي