أزمة النظرية الماركسية . أزمة المشروع الأيديولوجي الماركسي . افلاس الناطقين به ( 4 )

سعيد الوجاني
2024 / 8 / 20

--- اليسار الماركسي اللينيني بين السرية والعلنية في العمل السياسي :
حظيت المسألة التنظيمية باهتمام واسع من طرف منظمات اليسار الماركسي ،خصوصا بين مناضلي " يسار 23 مارس " ، " وحركة لنخدم الشعب " ، و" منظمة الى الامام " . فالقضية التنظيمية استرعت باهتمام واسع من قبل منظمات اليسار الماركسي ، فاصبح الجميع يطرح السؤال التالي : هل النضال السياسي والايديولوجي في الساحة ، ونظرا لطبيعة الحكم المخزني القمعي الذي يرفض اية معارضة من خارج النظام ، تقتضي الدخول في السرية ، ام تقتضي العلنية . طبعا سيرخص لها النظام من خلال وصل الإيداع الذي تمنحه وزارة الداخلية للتنظيمات السياسية ، منظمات وأحزاب .. فمسألة العمل السري والعلني حظيت باهتمام هذا اليسار الذي طبع الحياة السياسية المغربية ، منذ ظهور الارهاصات الأولية لهذا اليسار منذ زمن النكسة في حرب 1967 ، والى حين الإعلان ، وطبعا في السرية التامة عن النشء السياسي ، بعناوينه المختلفة .. ونظرا لان ميلاد " منظمة 23 مارس " لن يستمر بفعل القمع ، وبفعل المراجعات ، كان قصيرا ، أصبحت المنظمة اليسارية الأولى التي تدعو الى نظام الجمهورية الديمقراطية الشعبية ، هي منظمة الى الامام . فحياة جميع التنظيمات كانت قصيرة ، بخلاف منظمة الى الامام التي ظلت تنطق باسم الى الامام ، رغم الانسحابات ورغم المراجعات التي قام بها أعضائها في السجون ومن خارج السجون .
فهل افلاس الأحزاب كالاتحاد الاشتراكي حتى المؤتمر الرابع ، وافلاس حزب التقدم والاشتراكية ، وذوبان منظمة العمل الديمقراطي الشعبي ، سببه النضال في العلنية ورفض السرية ؟
طبعا للإجابة عن هذا السؤال ، فان الخلاصة التي خرجت بها قيادة المنظمة ، ان افلاس الأحزاب ، يرجع سببه الى اعتمادها نضال العلنية ، في دولة يديرها نظام نيوبتريركي ، نيوبتريمونيالي ، مزاجي تائه ، غارق في الطقوسية والشعوذة السياسية ، ولم تفلس حتى وصلت نهايتها كما يتراء لأي محلل ، بسبب الكولسة ، وبسبب عدم الوضوح الأيديولوجي ، والارتباك التنظيمي ، وانخراطها السريع ضمن التصورات التي كان يطرحها النظام ، خاصة عندما تبين انه مزاجي وتائه في كل قراراته ، خاصة في قضية الصحراء ..
لذلك اتخذ اليسار الماركسي ، وخاصة الى الامام ، خطوات متقدمة في معالجة المسألة التنظيمية ، خاصة في جانب السرية والعلنية . وبعد ان استفاضت شرحا لهذه المسألة ، ستبني نضالاتها على السرية ، وتركها للعلنية . بل ذهب بها الغرور الشبابي ، الى اعتبار السرية كقطب العمل الثوري ، بل اعتبرت ان ما يميزها عن أحزاب القصر ، الاتحاد الاشتراكي ( للقوات الشعبية ) وحزب ( التقدم والاشتراكية ) ، هو العمل السري في الساحة ، خاصة عندما اعتبرت نفسها بهذه السرية ، التنظيم الثوري الوحيد في الساحة . ففرق كبير بين التنظيمات الإصلاحية ، خاصة التي تنسب نفسها الى ( المعارضة ) ، وبين التنظيمات الثورية التي تعمل من اجل " الجمهورية الديمقراطية الشعبية " . فالدعوة (للإصلاح ) حتى من خارج النظام ، كانت تصطدم بشتى عقبات من قبل النظام المخزني السلطاني الطقوسي ، ومن إيجاد استقبالا من قبل الرعايا التي ترفض كل اشكال الأنظمة ، عدا النظام الشمولي ، التي تتباها الرعية في العيش في كنفه ، خاصة وان الرعية تعتقد جازمة ، ان النظام السلطاني الذي على رأسه امير وإمام ، وراعي كبير يقود الرعية في دولة رعوية ، مزاجية وتائهة ، سيما الاعتقاد ، بل الايمان التام ان الاسرة الحاكمة تنتسب الى صلعم ، وهنا يكون الدين بمفهومه الرجعي ، قد فعل فعلته جيدا ، في مخيلة الرعية ، التي تلتصق بالإمارة ، وترفض كل اشكال الجمهورية ، وسبب الرفض طبعا تكبيل مخيلة الرعية بالنظام الشمولي الغارق في الدموية ، ورفضها للجمهورية ، حتى وان كانت ستأتي بفائض القيمة ، وتوزعه على الرعايا الجائعة .. فمن هذا التصور والفهم للإشكالية في عمقها التراثي السياسي الأيديولوجي ، سيصبح الملك كأمير وإمام ، وراعي كبير في دولة رعوية ، تحتكم الى الأعراف والطقوسية في تسيير شؤون الدولة ، ولو انها دولة مزاجية ودولة تائهة .. لهذا كان انتقاد اليسار الماركسي ، وبالضبط الاماميين للأحزاب ( المعارضة ) في نوع النظام السياسي الذي يتم العمل من اجله ، وطبعا فان هذا العمل الشاق لا يصلح ضمن النضالات العلنية ، بل هو من صميم الأنشطة التي تتم في السرية . فكان موقف المنظمة الماركسية من الأحزاب يساوي موقفها من النظام .
ان نفس الموقف اتخذته المنظمة ومعها تنظيمات اليسار الماركسي اللينيني ، من النقابات العمالية التي تنشط في العلنية ، وضمن القوانين الوطنية ، أي الى جنب النظام الطقوسي البتريركي ، والبتريمونيالي ، والثيوقراطي .. فالمنظمة اعتبرت من غير الممكن ان تكون النقابات وسيلة تأطير وقيادة الطبقة العاملة ، فدعت من ثم لتجاوزها ، وتكوين بدلها نقابات سرية . وفي هذا الاطار رفضت منظمة " الى الامام " ، وحركة " لنخدم الشعب " ، نظام الوداديات كتنظيم داخل التلاميذ ، بل هاجمتها في المدارس الثانوية التي تشكلت فيها ، فتهمتها بالعمالة للأحزاب الملكية وللنظام . فأسست بديلها " النقابة الوطنية للتلاميذ " ، التي لم تكن لها في الحقيقة اية علاقة بالنقابة ، غير الاسم الذي اتخذ غطاءً لنشاط منظمات اليسار الماركسي ، بل لم ينتمي لهذا النقابة السرية التي دعوا اليها ، غير الأشخاص ( التلاميذ ) الذين كان لهم صلات تنظيمية مع حركة لنخدم الشعب ، ومنظمة الى الامام .
ان قرار وزارة الداخلية في 24 يناير 1973 بحل المنظمة الطلابية " ا و ط م " UNEM ، زاد قناعة للحركة الماركسية ، وخاصة المنظمة الأقوى " الى الامام " ، في اعتماد السرية في العمل النضالي ، والقطع النهائي مع كل اشكال التنظيم العلني . فاستمر العمل والاجتهاد في تكوين إطارات تلاميذية تابعة تنظيميا ولوجستيكيا الى " جبهة الطلبة التقدميين " ، واعتبارها البديل عن التعاضديات التي فشلت وزارة الداخلية في مدها بروح الحياة . فكانت الدعوة مقرونة بالتهجم على قيادة " الاتحاد المغربي للشغل " و " الاتحاد العام للشغالين " ، وفيما بعد ، استمر نفس التهجم على نقابة " الكنفدرالية الديمقراطية للشغل " التي كان وراء انشائها الاتحاد الاشتراكي ( للقوات الشعبية ) .
الملاحظ ان الدعوة لتأسيس إطارات سرية ، ظلت تتحكم في تفكير اليسار الماركسي ، ومنه منظمة الى الامام . وكان هذا الاتجاه يتجسد في المناشير التي كان اليسار يوزعها في أبواب المعامل ليلا . ان السؤال الذي يجب طرحه في هذا الصدد هو . لماذا تشبت اليسار الماركسي ومنه منظمة الى الامام ، بالعمل السري وتم رفعه الى درجة القداسة ؟ .
ان منظمة الى الامام في تقييمها لتجربة الأحزاب الملكية التي كانت تصفها بالإصلاحية ، اعتبرت ان عدم التجائها الى السرية في العمل السياسي ، وفي المسألة التنظيمية ، يعد من الأسباب الرئيسية في القمع الذي لحق بقواعدها التقدمية ، وعدم نجاحها في انجاز الثورة . وان طريق العمل العلني لن يؤدي في نظرها سوى الى الإفلاس السياسي والتنظيمي ، لأنه أسلوب إصلاحي رجعي . وبهذا اجتهدت منظمات اليسار الماركسي ومنه منظمة الى الامام ، في التنظير للسرية ، الى أصبحت بالنسبة لها ، ومنذ المراحل الأولى لوجودها ، حدا فاصلا في مواجهة النظام الطقوسي ، السلطاني ، المزاجي ، التائه والبوليسي ، وفي مواجهة القمع ، وشرطا حاسما لاستمرارها كمنظمات ثورية . طبعا هذا الحال جعلها تراهن في كل شيء على السرية كخيار ، كان استراتيجيا للوصال الى نظام الجمهورية الديمقراطية الشعبية .
هكذا نجد ان السرية تكون قد شكلت في مفهوم هذه المنظمات ، احدى مرتكزات وجودها السياسي والتنظيمي ، وكان تأثيرها كبيرا في بنيتها الفكرية ، فكرست بذلك جزءا كبيرا من وقتها ونشاطها ، من اجل ضبط التنظيم ، وتطوير تقنياته . فساد نتيجة تلك التصورات الشبكية ، والبيروقراطية ، والحلقية ، وعبادة شخصية الزعيم التي تم رفعها الى درجة القداسة والالوهية ، فاصبح همها الأساسي عند توزيع منشورات ، او حصول اعتقال ، وفي كل نشاط سياسي ، هو دراسة تقنيات التنظيم والسرية ، ومحاولة تلافي نتائج حتمية لموقف سياسي خاطئ بأساليب تقنية .
هكذا . اذا كانت منظمات اليسار الماركسي اللينيني ، تمارس عملها السري ، وترفض بشكل مبدئي العمل العلني ، والامكانيات التي يوفرها في المجتمع . وبهذا الموقف ، والى جانب المواقف الأخرى التي اشرنا اليها ، لم تتميز منظمات اليسار الماركسي عن المنظمات الشبيهة التي ظهرت في العالم منذ عهد لينين والى اليوم .
وضمن خط الرفض الشامل ، رفضت المنظمات الماركسية البرلمان الملكي ، واعتبرته ببرلمان ( الدليمي ) ، ولعبة رجعية الهدف منها تذويب كل المغرب في النظام السلطاني المخزني ، لأنها مجرد رعية من رعايا السلطان ، في دولة رعوية ، بتريركية ، بتريمونيالية ، طقوسية ... ، وتحريف " وعي " الرعايا المُحرّف لوحده ، وتعطيل المطلب الاستراتيجي الذي هو الثورة . وهذا الخيار الحاسم ، هو اكبر قناعة سياسية برفض منظمات اليسار الماركسي ( للديمقراطية ) الحسنية ، مثل ( الديمقراطية ) المحمدية . فمحاربة البرلمانية العلوية ، تعد من المهمات الرئيسية للثوريين ، في مجتمع متخلف اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ، وتسوده الاثنية القبائلية ( القبيلة ) ..العصبية ..
ان تقييم منظمات اليسار الماركسي لواقع البلاد ، ولمستوى وعي ( الجماهير ) الرعايا ، دفع بهذه المنظمات الى اعتبار ان المسألة الديمقراطية البرلمانية ، قد تم تجاوزها موضوعيا ، وأصبحت مرفوضة بشكل واعي من طرف ( الجماهير ) الرعايا . ومن هذا المنطلق ، هاجم اليسار الماركسي ( الأحزاب ) السياسية التي كانت تشارك في انتخابات الملك ، فاعتبرتها ذيلية للحكم ، وخادمة لمخططاته وبرامجه الرجعية . بل ان حركة اليسار الجديد ، اعتبرت دفع ( الجماهير ) الرعايا للمساهمة والمشاركة في الاستحقاقات السياسية ( برلمان / جماعات ) ، بالموقف الرجعي الغير مقبول ..
وفي اطار تشبتها المبدئي برفض الديمقراطية البرلمانية الحسنية ( الحسن الثاني ) ، رفعت منظمات اليسار الماركسي شعار افلاسها ، كل مرة يقرر النظام ومعه الأحزاب الحزبوية ، الدخول الى تجربة انتخابوية جديدة . بل ان موقفها من الديمقراطية البرلمانية ، لا ينفصل كليا عن موقفها من الإصلاحات السياسية والاجتماعية . ان موقفها نهائي وقاطع . انها ضد أي اصلاح سياسي يجري تحت خيمة الحكم . ففي نظرها انّ ما يسمى بالإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، غير ممكنة التحقيق في الوضع الحالي للبلاد ، وفي ظل نظام ملكي طقوسي ، مزاجي ، تائه ، وبوليسي .. فمن هنا اجتهدت منظمات اليسار الماركسي الثوري ، في عملية مدروسة للتعتيم على الوضع ، وابرازه بشكل ظلامي مع مجيء الإسلام السياسي ، الذي توحّد مع القصر ، لضرب اليسار الماركسي الذي سيطر على التعليم ، وسيطر على الثقافة الثورية ، خاصة الأشخاص الذين كانوا أعضاء ب " اتحاد كتاب المغرب " . فالوضع بالنسبة لهذه المنظمات . إمّا ابيض و إمّا اسود ، ولا منزلة وسطية بين المنزليتين . ..
وما دامت الثورة لم تُنْجز ، فالسائد في نظرها في المجتمع ، هو الظلام الدامس . وأمّا وان تستطيع أحزاب البرجوازية الصغيرة ، وبعض الأحزاب الاصلاحوية في ظل ظروف معينة ، ان تفرض بعض الإصلاحات الاجتماعية والسياسية ، ومن ضمنها بناء مؤسسات تمثيلية وطنية ومحلية ، فذلك شيء خيالي في نظرها . تلك هي الخلفية الأيديولوجية والسياسية التي استندت عليها المنظمات الماركسية ، عندما وصفت الأحزاب ، طبعا أحزاب ذاك الزمان ، وليس زمننا الذي نعيشه ، غياب هذه المنظمات والاتحادات والأحزاب .. وبهذه المواقف ، كانت المنظمات الماركسية مخلصة في تمسكها بالفكر اليساري ، وبأبرز مظاهره ، وليس ترديدها المتواصل لبعض الكلمات والجمل الماركسية ، الاّ تجسيدا لاهم مميزات النزعة اليسارية التي تختار بشكل انتقائي ودغمائي ، كل ما يدعم بنيتها الفكرية والسياسية الجامدة . ان التعامل الكتبي مع الماركسية كشعار وجمل معزولة ، تستخدم كوصفات جاهزة ، للرد على كل تطور .. ، هو ما يميز مجموعة الشباب المتعلم التي ظهرت منذ 30 غشت 1970 ، وبما فيها مجموعة الى الامام ، حركة لنخدم الشعب ، الوحدة والنضال ، يسار 23 مارس بالسجن ..ان رصيد الثقافي والسياسي لم يكن يتجاوز هذا السقف ..
( يتبع )

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي