|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
الطايع الهراغي
2024 / 8 / 5
على هامش اغتيال إسماعيل هنيّة
"هل في وسعي أن أختار أحلامي، لئلاّ أحلم بما لا يتحقّق؟
(محمود درويش)
"اصعدْ فموطنك السّماء، وخلّنا في الأرض.إنّ الأرض للجبناء"
(أحمد مطر في رثاء ناجي العليّ)
"الآن تعرف أن شوك الكفّ
شيء غير عشب الأرض
تعرف أن غزّة غير أشباح المدن"
(معين بسيسو)
01/ سفـر في سفـر
التّصفيّات والاغتيالات واستهداف القيادات السّياسة والزّعامات التّاريخيّة والفكرية بند قارّ في سياسة الكيان الصهيونيّ منذ تمّ بعثه وزرعه كحارس أمين لأخطبوط المخطّط الاستعماريّ في المنطقة والاستيطانيّ في فلسطين.جزء من مخطط الاستئصال وتدمير الذاكرة الوطنيّة والقوميّة. الاغتيلات هي بالتّعريف حرب ضدّ الذاكرة لردمها واستبدالها. يكفي التّدليل على ذلك باستحضار قوافل من الهامات الفكريّة والاعتباريّة والزّعامات السّياسيّة ومن مختلف الفصائل والاتّجاهات التي تعمّدت دولة العصابات الصّهيونيّة تصفيتها، قافلة يكاد يستحيل حصرها:غسّان كنفاني/كمال عدوان ورفيقه أبو يوسف النّجّار/كمال ناصر/ماجد أبو شرارة/صالح خلف/ أبو جهاد(خليل الوزير)/ الشّيخ ياسين / أبو عمّار(ياسر عرفات)/ وديع حدّاد. يقابل ذلك صمود أسطوريّ حوّل الاستشهاد إلى وسام ورغبة وحافز للتّحدّي ونحت ذاكرة تعلي الشّهيد إلى مرتبة القدّيس(قدّيس بزيّ مقاتل طبقا للتّشبيه الرّشيق للشّاعر محمود درويش). تلك خاصّيّة الفلسطينيّيين،إعلاء الأدباء والشّعراء والشّهداء إلى مرتبة الأنبياء وأبطال الأساطير وتحويلهم إلى منارات بها يهتدون في رحلة سباقهم مع الزّمن .
ما يرسمه الشّهيد بدم عزيز غزيرعلى جداريّة الزّمن لا يبلى ولا يموت. ذلك تحديدا ما نقشته الذّاكرة الفرديّة والجماعيّة.
طوبى لكلّ أمّ فلسطينيّة.فمن حقّها، دون سواها،أن تفاخر بأنّها أنجبت أكثر شعوب الدّنيا عذابا وتحرّرا،مأساة وعنادا،تبرّما بالحياة وعشقا صوفيّا لها.الحياة الكلبة بنت الكلب تفتن الفلسطينيّ فتلدغه سبعا وتجازيه عشرا.الفلسطينيّة محكوم عليها أن تكون أمّا لكلّ الشّهداء.تشيّع أبناءها والابتسامة لا تفارق محيّاها.تشرق بالدّمع دون أن تذرف دمعة واحدة لكي تضاعف حيرة الأعداء أغرابا وأعرابا. مِن مآسيهم وأتراحهم، من عذاباتهم وخيباتهم وسجلّ أيّامهم الأسطوريّ،من اقتحامهم لكلّ المخاطر مجتمعة ومنفردة يقيم الفلسطينيّون أجمل أعراسهم وأفراحهم.أليست غزّة- منذ باتت عاصمة العالم وقبلة الأحرار- المدينة الوحيدة المحرّرة في كلّ أصقاع المعمورة؟؟لم يعد الفلسطينيّ- حيثما كان- بحاجة إلى جواز سفر منذ صار إسم فلسطين جواز عبور إلى عواصم ترهّلت فباتت تحتاج انجلاء وجلاء لتسترجع عصمتها.
إسماعيل هنيّة(المحظوظ كونه فلسطينيّا)- مثل أيّ شهيد- مهمّته أن يعلن في القبائل المتناثرة ومن أعلى صومعةأو منارة أنّ ما انتهى هو أشلاء النّظام العربيّ الرّسميّ المنهار بطبعه والعاجز عن الدّفاع عن جلده ودبره كنظام يُفترض أن تحكمه غريزة حبّ البقاء. وما تهاوى هو طابورعروش حكّام وخيام أمراء من قصب قدّت.مهمّته أن يسارع بتقديم واجب التّعازي ( ولِم لا المواساة؟؟) لملوك طوائف جعلوا من خيامهم حوزة إفتاء لإبرام جواز متعة مفتوح في الزّمن لتدبّر سبل المواءمة بين السّلم والسّلام والاستسلام ، بين الطّبيعيّ والتّطبّع والتّطبيع،بين الأخوّة والإيخاء والخيانة.مهمّته أن يكذّب كلّ نعي مادام الشّهيد يبحر في المكان والزّمان لغاية واحدة أن يؤجّل رحيله ما استطاع . كيف لشهيد أن يرحل(وهل له أن يرحل؟؟ ) وله في كلّ ناحية حكاية مطرّزة بأعاجيب أكثر عجْبا من عالم الخيال، وفي كلّ مخيّم ذكرى أقسمت أن لا تمّحى، وفي كلّ خندق موعد ومسامرة عزّ نظيرها واستحال؟؟كيف؟؟يقول في ما يرقى الى مستوى التّراتيل المقدّسة:معكم كنت.ومعكم دوما سأكون.ذاك عهد وميثاق. اطمئنّوا. وناموا آمنين. الشّهداء دوما قادمون، يحرسون المدينة من غفلة الزّمان ومكره ومن غدر زوّار آخر اللّيل وخسّتهم .آخر من يموت وأول من يحتفل بمباهج الحياة. يدرك الفلسطينيّ، بالسّليقة أحيانا وبما تعلّمه في مدرسة المحن أحيانا أخرى، أنّه وُلد ليكون مشروع شهيد. عندما تلبسه الحيرة وتستبدّ به،تحاصره الظّنون ،يسكنه الخوف من تسلّل علامات الشّكّ ويصيبه هلع البحث عن برد اليقين يهرع إلى أمّ الجميع يسأل كطفل أضاع السّبيل لمّا اختلطت عليه السّبل وتاه بين الاحتملات، يسأل: فلسطين إذا حدث أن اختلفنا(كما يحدث دوما) في أنجع الدروب الموصلة إليك ما الحلّ؟؟ ويكون الجواب أن استحضروا صورة الطّفل حنظلة. لا يكبر أبدا كما أراد له صديقه ومخترعه رسّام الكاريكاتور ناجي العليّ. فقد أقسم أن لا يغفر ولا يسامح، ورتّلوا على الملإ آخر أناشيد الشّهيد وأغانيه وما يتلفّظ به من آيات بيّنات ساعة قبل أن تلتحم الرّوح بالجسد في عناق أبديّ وبه تحتمي وترفض أن ترحل عنه قبل أن تحتفل وإيّاه بالانتصار على ما عمّ من قحط ودمار:دمي، يا دمي إذا يوما ما رحلتُ أنا وغفرتَ أنت لأعدائي -أعدائك- فلا أنت مني ولا أنا منك.لا تصالح. وليدبّج أبناء الكلب ما شاؤوا عن فنون التّسامح.تذكّرْ ولا تخذل جرحا يتّكئ على الجرح ويبتسم لكي لا يخون الدّمُ الدّم .يعانقه ولا يئن فيكون عليه رحمة وله بلسما. لنتّفقْ على ما عليه تعاهدنا وما يوما فيه اختلفنا:من حقّي عليك الموت فيك وليس من حقّك البكاء عليّ ساعة يخطر لي أن أموت .
"أشقى مخلوقات الأرض إنسان بذاكرة قويّة". لعن الله فرويد .هكذا جزم بكلّ وثوقيّة فذكّرنا بما ليس منه بدّ.وكان بالإمكان أن يضيف أنّ أتعس إنسان هو ذاك الذي لا يملك ذاكرة عليها يستند فتزوّده بما يلزم من عناد. لا تاريخ لإنسان لا تلهب ظهره بالسّياط ذّاكرة ملتهبة وثّابة عنيدة. من أضاع ذاكرته محكوم عليه أن لا يعرف للسّعادة طعما ولا إليها مسلكا.
02/ قدّيس بزيّ مقاتل
يوم يُكتب للتّاريخ أن يقتصّ من عبث الأقدار. يوم ينحاز إلى صفّ الفقراء والعيّارين ويتولّى إصلاح ما تسلّل إلى الخرائط من شنيع الأخطاء وغريبها علّه يمحو قسطا من فظائع لفرط فضاضتها تفوق الخيال وتتجاوز المآسي الافتراضيّة،يوم تتملّص الذّاكرة من لعنات النّسيان وضرورات التّناسي وموجباته وتتحرّر عروس المدائن –فلسطين-، وحتما ستحرّر "مهما يمرّ الزّمان" على حدّ ما ترنّمت بذلك جارة القمر فيروز،يكون عدد شهدائها في رحلة بحثها عن خلاصها وتحرّرها (وخلاصنا وتحرّرنا) يساوي أو يفوق عدد سكّان بلد بحاله. لقد خسر الفلسطينيّ كلّ شيء،ما يملك وما لا يملك حتّى لم يعد له ما يخسره غير آلامه هو وأوهامنا نحن .فبات "مهدّدا" بأجمل عقاب :أن يربح ما بدا له في ماضيه التّعيس عسير المنال وما بدا لغيره وهما وضربا من الخيال.
الفلسطينيّ أرادت له مجاميع من أبناء العمومة والإخوة والأشقّاء ومن على شاكلتهم ممّن ارتضوا سبيل الذّلّ والمهانة أن يكون بلا أرض وبلا برّ وبلا بحر وبلا أحلام.حرموه حتّى إمكانيّة الاحتماء بما تيسّر من الأوهام.باتت كلّ أراضي الدّنيا له أرضا فما استطاب بها مقاما وما هزّه إليها حنين.وساعة يغادرها فكأن لم تكن ذات يوم له ملجأ، وكلّ البحار له بحرا فما رامها مستقرّا.ومع كلّ حلم يذبل تنبت أحلام وتورق.كان وظّل متيّما بأمر جلل عظيم:أن يحتلّ شبرا من أرض- هي في الأصل أرضه ومرتع صباه-عليه يقيم مدخلا لوطن أرحب من كلّ الأوطان مجتمعة وأبهى. لسبب ما، لعلّه يعود إلى ما في نظام الكون من اعوجاج وبعض من أسرار، يكون الفلسطينيّ هو الوحيد الذي حكم عليه التّاريخ بعقوبة أن يتسلّى بأخطر لعبة،لعبة مراودة الموت ومراقصته في ساعات الجدّ ولحظات اللّهو،وليس له إلاّ أن ينجو من مخالب الموت بأعجوبة وبمحظ الصّدفة. ولأنّه يموت يوميّا فمن المتوقّع أن لا يموت أبدا. كثيرا ما تفلت منه الحياة وتنساب كما ينساب الماء من بين فروج الأصابع فيكون عليه أن يعشق الحياة، يهيم بها ويفنى فيها بلهفة غريبة عجيبة تحسده عليها قبائل العربان من تتار وعجم وعربان وقطعان ملوك الطوائف وجحافل حريم السّلطان. الموت في سبيل هدف نبيل شرف ترقص له الصّبايا طربا وتزغرد له الأمّهات وتنتظره بتفاخر.
ذاك هو عرس الدّم الفلسطينيّ برقصة فلسطينيّة ونكهة فلسطينيّة يفنى الزّمان وما هي بفانية. اقتحمت التّاريخ واحتلّت بوّاباته منذ أمد، منذ بات للعرب العاربة تاريخ مرير وطويل مع الخيبات والنّكسات و"أيّـام" من النّكبات والهزائم، وفي ثناياه سكنت. فتاه بها عشقا فاستزادت به هياما. يعزّ على الشّهيد أن يتنكّر لوصيّة أمّه،يخجل من نفسه إذا لوّث يوما تاريخ قضيّته. لا مجال لأن يؤبّـنه عربان ليسوا منه. يسكنه الرّعب ويجفل ممّن يتآمر على قتله ويسارع ليتصدّر موكب دفنه.يقول في ما يقول:لا تزعجوا الأحياء الأموات، فهم بالرّأفة أحقّ منّا وبالرّثاء أولى. قدرنا أن نتطوّع لنحمل الوزر عنهم وتبحّ حناجرنا بترتيل الأناشيد ساعةَ يكشّر الموت عن أنيابه ويحاصر الأحلام الشّاردة ويزحف علّه يحتلّ بعضا ممّا التحم بالضّلوع.لمّا تلبسهم الهزيمة وتسامرهم شطرا من اللّيل وتأبى المسالك إلاّ أن تتشعّب عليهم،وتنحجب عنهم الرّؤية ويهمّ القلب أن ينفجر كمدا وغيظا ليهجر مداه تتوضّح الرّؤيا، يتسّع المدى وتنفتح الآفاق. ينتصب شهيد - كنا نعدّ للاحتفال بخمسينيّة استشهاده- في قلب المدينة، في رأس المخيّم، في أزقّة القدس العتيقة، في ميناء يافا وسور عكّا.في الطّريق إلى زهرة المدائن،في دير ياسين وكفر قاسم،في تلّ الزّعتر،في بيروت لمّا كانت بيروت عاصمة فلسطينيّة (آه يا بيروت) بامتياز يردّد نشيده الأبديّ ترتيلا:فلسطين هي الحقيقة الوحيدة الباقية وما سواها مجرّد لغو باهت بليد ركيك كجثّة هامدة. خجلا من خليط من مأساتها وهيبتها ووقارها يتريّث الموت طويلا قبل أن يفاتحنا في أمر الموت. أنا لم امت ولا أموت.على جداريّة الزّمن- الزّمن الفلسطينيّ تحديدا- رسمنا الأسماء،كلّ الأسماء والتحفنا بأسماء فلسطين الحسنى= أمّ الشّهداء/"أرض البرتقال الحزين"/ أنيس من لا أنيس له /أمّ القضايا وقبلة التّاريخ/ رفيق من تخلّى عنه الرّفاق ساعة عسرت المسألة وصعب الفرز وتساوى الضّدّ بالضّدّ/ الرّواية التي تأبى أن تكتمل ويوم تكتمل يتحتّم على بني عربان أن يقيموا على عروشهم مأتما وينسحبوا من التّاريخ.
ها أنذا بينكم لحما ودما، مهجة ومشاعر،أتفقد أزهاري التى لم تغب يوما عنّي وأرعاها بدم من شراييني . أتّفقد أضلعي لأحصي كم من ضلع لم يرحل وظلّ معي .ألعن من استعجل نعيي فأخطأ العنوان،جانب الصّواب وما أحسن النّعي.كلّما همّ حلم أن يذبل نهرته أحلام وأزهرت .من قال أنّ الشّهداء يموتون حلّت عليه لعنة السّماوات السّبع والأراضي العشر وألبسه التّاريخ جلباب اليأس والخذلان. الشّهيد تكسوه ابتسامة بحجم وطن.عندما يبتسم يرتعب الأعداء وله يسجد التّاريخ. تتذكّر المدن أحزانها وآلامها وتنفض عنها غبار اليأس وتشتهي أن تنتفض. يقول وهو يخاتل الموت: ليس بعدُ. دعوني أتماوت لكي لا أموت. دعوني ألتحف بوصيّة عمري.سأعلن عن رحيلي ساعة أريد. لأمر ما لست على عجل. يوم الغيب الأخير لا حاجة لنا بمراث باهتة لم تقتل يوما ذبابة ولا بنعي كاذب أرذل من براءة ذمّة وأبخس من نكتة سمجة .لا مشكل لي مع حكّام -غربانا وعربانا/ ماغولا وتتارا - جثموا على رقابنا دهرا. كانوا دوما يبخلون علينا بمجرد نعي باهت بليد ركيك في ركن مهجور من جريدة صفراء داكنة كوجه حالك . ما بيني وبينهم عشق دراميّ من نوع خاصّ يليق بمقام حاكم من صلبنا،من بني جلدتنا. ما بيننا مجرّد سوء تفاهم عنيد ودائم وجفاء مستأصل وثأر لم ولن يعرف للصّفح عنوانا. أنا الشّهيد. لا إسم لي ولا عنوان. لا أحتاج هويّة. ففلسطين هويّتي.أنا من هناك. من صفد، من طولكرم،من نابلس، من النّاصرة، من الرّملة، من أريحا، من زنقة ما في نهج من أنهج القدس العتيقة. فأمّ الشّهداء "أرض البرتقال الحزين"،عروس المدائن لا تفرق بين أبنائها . حفرتْ على صدورهم -من الجهة اليسرى تحديدا حيث نبض القلب يتسارع- وساما أجمل من كلّ الأوسمة وأحلى. يتطاول على الزّمان ولا يحّده المكان.
وأخيرا: أمّا إسماعيل هنيّة- ككلّ قوافل الشّهداء-فقد طوّع الموت وهزمه ونحت إسم فلسطين-أمّ من لا أمّ له من الشّهداء-. على جداريّة الزّمن. لم يترك هو الآخر وصيّة. لم يمهله الأعداء فرصة التّفكير فيها فما بالك بكتباتها.فهل يكون هو الوصيّة؟؟ وأمّا الأنظمة العربيّة إسما والصّهيونيّة هوى وفعلا (من محيطها إلى خليجها /ملكيّها وجمهوريّها/ مدنيّها وعسكريّها/ من أعلن العمالة جهرا شعارا به يباهي ويزيد ومن ادّعى ثوريّة في لغة خشبيّة لم تتجاوز حدود قبر أحلام شعبه)فقد تدثّرت بجلباب الذّلّ والهوان ولبست المهانة والصَّغار وقبعت صاغرة ذلولا تلاحقها لعنات التّاريخ وسخط الأجيال.
وآخر الكلام= فلسطين حكاية. تلتحم فيها البداية بالنّهاية.حكاية جيل يعرف أنّه يصنع مستقبلا قد لا يكون قريبا. ومع ذلك- وربّما لذلك تحديدا – تتسابق الأجيال في التّوحّد به والفناء فيه.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |