|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
عبدالله عطوي الطوالبة
2024 / 7 / 29
لسنا نبالغ، وليس في نيتنا المبالغة، إذا قلنا إن السابع من أكتوبر 2023 يزهو بحدث دخل التاريخ من أوسع أبواب التفرد بخصوصيات لا يشاركه بها حدث سواه في تاريخ المقاومة ضد الاحتلال. وإذا طُلب إلينا تحديد العناوين الرئيسة لفرادة طوفان الأقصى، فإننا نحصرها في ثلاثة عناوين، هي بإيجاز: أداء رجال المقاومة المنفذين، والسياق التاريخي السياسي للحدث، ثم التداعيات والانعكاسات والتأثير على العدو.
على صعيد الأداء، بدا الفعل في ساعاته الأولى لفرط جرأة الفاعلين الأبطال وجسارتهم عصيًّا على التصديق للعدو قبل الصديق...1200 مقاوم، يقتحمون حصون عدو مهووس بالأمن، وَقَرَ في أذهان الكثيرين أن لديه من التكنولوجيا ما يمكنه من رصد حركة النملة على الأرض...لم يقتحموا الحصون فحسب، بل سيطروا على الآليات ومنها دبابات الميركافا فخر صناعات العدو العسكرية، وشاهدهم العالم كله يسحبون جنود العدو من داخلها كالخراف، فيحيلونهم من جنود جيش عاش ردحًا من الزمن على أسطورة "أنه الجيش الذي لا يُقهر" إلى أسرى تحت رحمة المقاومة. ومن الأسرى أيضًا، قادة من ذوي الرتب العالية في الجيش الصهيوني. وزادوا على ما ذكرنا وسط إعجاب العالم وذهوله، السيطرة على العديد من مستعمرات غلاف غزة لساعات طوال، وهو ما أفقد العدو صوابه.
على صعيد السياق التاريخي السياسي للحدث البطولي الفارق، كانت القضية الفلسطينية قبل طوفان الأقصى تمر بحالة من الإنسداد التاريخي لم تشهدها مُذ زرعت بريطانيا الكيان الشاذ اللقيط في فلسطين سنة 1948. حالة الإنسداد هذه لها أسباب عدة، تتلخص كلها في مُخرجات ما يحلو لبعضنا تسميته "مشروع التسوية"، أما نحن، فيطيب لنا تسميته ب"مسرحية مدريد للسلام"، والتي انقسم الأشقاء الفلسطينيون على أرضيتها وبسببها إلى سلطة في الضفة الغربية ومقاومة في غزة بغض النظر عن التفاصيل المتعلقة بهذا الطرف أو ذاك، ونرى أنها تتحدث عن نفسها بنفسها.
السياق يُلزمنا بالإضاءة على مخرجات "مسرحية السلام" لتستقيم الأمور وتوضع في نصابها الصحيح.
تمثلت هذه المخرجات بتوقيع اتفاق "أوسلو" مع منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1993، واتفاقية "وادي عربة" مع الأردن سنة 1994، وصولًا إلى "اتفاقيات ابراهام للسلام" أو السلام الابراهيمي. وكانت مصر السادات قد مهدت الطريق لهذا الاختراق الصهيوني، بتوقيعها اتفاقيات كامب ديفيد سنة 1978.
جَنَحَ بعض النظام الرسمي العربي "للسلام"، وهو يدرك أنه ليس بمستطاعه فرضه، ولا الحصول عليه. هنا، نستحضر واحدة من أهم قواعد الصراعات، ومفادها، أنك لن تحصل على طاولة المفاوضات مع عدوك أبعد من مرمى مدفعيتك على الأرض. فكيف عندما تكون من دون مدفعية، وتفاوض عدوًّا عنصريًّا استيطانيًّا احلاليًّا، مثل الكيان الصهيوني؟!
ماذا كان رد العدو على "جنوح" بعض العرب للسلام؟!
اشتط في نزوات غروره الوقح، وتمادي في الغي والعدوان، وترجم ذلك على الأرض بمضاعفة التوسع الاستيطاني في الجزء المحتل من فلسطين سنة 1967(الضفة الغربية). وزاد وتيرة مصادرة الأراضي بذرائع شتى، إلى مستويات غير مسبوقة.
وفق إحصاءٍ أصدرته حكومة الكيان نهاية العام الفارط، قفز عدد المستعمرين في الجزء المحتل من فلسطين سنة 1967 إلى 517 ألفًا، وذلك تماشيًا مع ما يُعرف بخطة المليون مُستعمر لتغيير الواقع الديمغرافي. وأخيرًا، صادق الكنيست الصهيوني على مشروع قرار يرفض إقامة دولة فلسطينية.
أما غزة، فقد فُرض عليها حصار ظالم جائر من قبل العدو وصمت من يُفترض أنهم أشقاء، منذ 2007، ولم تُفلح أي جهود حتى بتخفيفه.
إذن، بكل معايير الحق والحقيقة ومقاييسهما، طوفان الأقصى فعل بطولي تاريخي يندرج في إطار الحق المشروع بمقاومة العدو المحتل. هذا الحق بالمناسبة، تكاد تُجمع عليه القوانين والتشريعات الإنسانية، بما فيها الأميركية.
ما بعد السابع من أكتوبر مختلف عما قبله، وهنا أظننا دخلنا في الحديث عن انعكاسات الطوفان وتأثيراته على العدو نبسطها تاليًا بإيجاز قدر المُستطاع، على شكل محاور.
أولًا: يطيب لنا أن نبدأ حديثنا بشأن تأثيرات الطوفان على الكيان بما نعتقد أنه أهمها، ونعني كسر صورة "القوة التي لا تُقهر". هذه الصورة، التي لم يدخر العدو ورعاته وداعموه جُهدًا طوال عقود لتثبيتها في الذهن العربي، من أجل تكريس ثقافة الهزيمة.
أنهى الطوفان أسطورة "الجيش الذي لا يُقهر"، باعتراف العدو نفسه، وإقراره بالإخفاق الأمني والاستخباري والعسكري، في السابع من أكتوبر. اعتمد الكيان منذ زرعه في فلسطين استراتيجية الاستعداد الدائم للحرب والعدوان، كونه ذا نشأة شاذة غير طبيعية، ولأنه كيان مغتصب لحقوق الشعب العربي الفلسطيني. لذا اتجه منذ البداية إلى بناء قوة ضاربة مدججة بأحدث أنواع الأسلحة التقليدية وغير التقليدية، لضمان تفوقه العسكري تحت عنوان الردع. والأهم، زرع الرعب واليأس في النفوس من امكانية هزيمته. لكن الطوفان وجه ضربة قاصمة لمفهوم الردع الصهيوني، بتأكيد إمكانية هزيمة اسرائيل ومباغتتها.
أخفق الردع الصهيوني في منع حدوث الطوفان، وأخفق بعد ذلك في تحقيق أهداف حرب الكيان الهمجية البربرية على غزة رغم انقضاء حوالي عشرة أشهر عليها. ونرى كيف يقف جيش النازية الصهيونية مترددًا مرتبكًا إزاء ما يحدث في شمال فلسطين المحتلة، وبالذات في مواجهة حزب الله، رغم أن الحزب يصعد من جهته ويوسع المساحات المستهدفة من المستعمرات الصهيونية ويوقع خسائر كبيرة في صفوف العدو. ويعجز الكيان عن التصدي لمسيرات تنطلق من اليمن الشقيق، تخترق دفاعاته وتنفجر في تجمعاته الاستعمارية في تل الربيع وأم الرشراش المحتلتين وغيرهما.
الردع الصهيوني إن لم يكن قد انهار، فإنه يتآكل.
ثانيًا: الهجرة العكسية. تؤكد بعض المصادر أن نصف مليون مُستعمر اسرائيلي غادروا فلسطين، بعد الطوفان. وهناك مصادر ترفع الرقم إلى مليون هارب من فلسطين، وغيرها تشير إلى أن 360 ألفًا غادروا من دون معرفة السلطات الصهيونية، و 600 ألف سافروا خلال العُطل ولم يعودوا.
الهجرة العكسية تضرب بعمق في أساسات العقيدة الصهيونية، القائمة على الاحتلال والاستعمار والإحلال وتشجيع الهجرة إلى "أرض الميعاد". وهي في الوقت عينه، تعيدنا إلى نوعية العقد الاجتماعي بين النظام الصهيوني وتجمعاته من المستعمرين (المستوطنين).
تنهض نظرية العقد الاجتماعي على تنازل شعب ما عن جزء من سيادته لسلطة ينتخبها أو يختارها بما يشبه الانتخاب ويقاربه، يحترم قراراتها ويلتزم بها، مقابل ما توفره له من أمن وازدهار ورفاه. هذا بالنسبة للمجتمعات الطبيعية، ذات النشأة السوية، وهو ما لا ينسحب على الكيان الشاذ اللقيط. فقد زُرع في أرض ليست له، وتتكون تجمعاته الاستعمارية من مهاجرين مُستجلبين من مختلف الدول والثقافات لا تربطهم بالأرض أي علاقات عاطفية ولا تشدهم إليها أية مشاعر انتماء. وبالتالي، فإن العقد بينهم والكيان يقوم على موافقتهم على القدوم من بلدانهم الأصلية إلى فلسطين مقابل ما يوفره لهم من أمن ورفاهية ومنافع، أي أنه عقد اجتماعي شاذ، يقوم على المنفعة وليس على الانتماء للأرض. وقد وجه الطوفان ضربة قاصمة لهذا النوع الغريب الشاذ من العقد الاجتماعي بعد اخفاق المنظومة العسكرية والأمنية الصهيونية في حماية المهاجرين المستعمرين يوم السابع من أكتوبر وما تبعه من مواجهات ما تزال مستمرة. إن علاقتهم بفلسطين أقرب ما تكون إلى علاقة مالك أسهم في شركة، تنتهي بانتهاء المنفعة المتبادلة. لذا، سارع مئات الآلاف منهم إلى الهروب من فلسطين ومغادرتها بعد تعرضهم للتهديد الوجودي.
ثالثًا: على صعيد الداخل الصهيوني أيضًا، ليس يفوتنا ملاحظة تعمق الإنقسامات داخل الكيان على أرضية تفاعلات ما بعد طوفان الأقصى. وتتجلى التبديات الأبرز لذلك في تصاعد التحذيرات من النبوءات المتوارثة عن الزوال القريب، ناهيك بقرع نواقيس الخطر مما يُعرف ب"لعنة العقد الثامن" من قِبَل رؤساء وزراء سابقين منهم إيهود باراك. للتذكير، هذه اللعنة مفادها، أن أي دولة لليهود لم تُعمر أكثر من ثمانين عامًا، وهو ما ينسحب على ما يُعرف بدولة الملك داود(موروثنا الديني يعده نبيًّا) ودولة الحشمونائيم. وكانت بداية نهاية كل من الدولتين في العقد الثامن، نتيجة التفكك الداخلي. الحديث عن الداخل الصهيوني، يستدعي بالضرورة تسليط الضوء على جنوح الكيان نحو اليمين، وبالذات نحو الفاشية الدينية. لهذه الظاهرة سببان برأينا واجتهادنا، أحدهما يشترك فيه الكيان مع مجريات الأمور في العالم كله، وبشكل خاص في صعود ما بات يُعرف في أوروبا ب"اليمينية الشعبوية". أما السبب الثاني، فيخص الكيان وحده، ومبعثه بتقديرنا إخفاقه في تحقيق السبب الرئيس ليصيب الاحتلال قَدَرًا من النُّجح يضمن له الاستقرار والاستمرار. مقصود القول، الشرط الرئيس لنجاح أي احتلال، كما تفيد تجربة المهاجرين البيض(الواسب) في أميركا الحالية، يتجسد في فصل الجغرافيا عن التاريخ، التاريخ بمعنى الإنسان والجغرافيا بمعنى الأرض. مقصود القول باختصار، ضرورة التخلص من صاحب الأرض بأية طريقة، كما حصل للهنود الحمر أهل أميركا الأصليين قبل قدوم المهاجرين البيض. في فلسطين صاحب الأرض موجود في أرضه، وعدد نفوس أبنائه في فلسطين التاريخية يفوق أعداد المهاجرين اليهود بأكثر من ربع مليون إنسان والرقم متحرك باتجاه الزيادة بالطبع. ولمواجهة التحدي الديمغرافي، ووصول الكيان إلى اليأس من امكانية تحقيق شرط فصل الجغرافيا عن التاريخ لنجاح احتلاله، لجأ إلى الأساطير التوراتية ومقولة "الصراع الديني" لتبرير فظائعه وارتكاباته بحق الشعب العربي الفلسطيني. ولا غرابة أن يلجأ كيان مسكون بالقلق الوجودي لمعرفته بحقيقته، إلى تذخير الوعي الجمعي الصهيوني بسفر يوشع بن نون وقصة شمشون وبعض المقولات التوراتية، لتسويغ القتل والإبادة. كيانٌ على هذه الشاكلة، يستحيل أن يكون التاريخ حليفه.
رابعًا: أعاد طوفان الأقصى القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام الدولي، وإدراجها من جديد في طليعة القضايا العالمية محل الاهتمام. وقد ترتب على ذلك، تقهقر السردية الصهيونية لصالح السردية الفلسطينية وعدالة قضيتها. وبالقدر ذاته، انقلبت صورة الكيان لدى الرأي العام الدولي من كيان محاصر من جيرانه ومهدد بالقائه في البحر من قِبَلهم، إلى كيان يشن حربًا وحشية همجية وملاحق من الضمير الإنساني والمحاكم الدولية لارتكاربه جرائم إبادة جماعية. تعرى الكيان وتكشف عن وحشية هزت الضمير الإنساني بقصف المنازل والمستشفيات والمدارس ومراكز الإيواء التابعة للأمم المتحدة ودور العبادة بالسلاح الأميركي وهدمها على رؤوس من فيها. وبات العالم شاهدًا على ممارسات العدو الإجرامية ضد الأسرى من تعذيب وتجويع، والاعتداء على النساء، والاعدامات الميدانية للشبان والرجال أمام ذويهم. ممارسات لا تمت الى الإنسانية بصلة، ولا يصدق عقل سوي سليم حصولها في القرن الحادي والعشرين.
خامسًا: بعد الطوفان، تأكد أن الكيان رغم كل ما بحوزته من أحدث الأسلحة الأميركية والغربية، وما يتوفر له من دعم أميركي غرب أطلسي مفتوح، بات غير قادر على الدفاع عن نفسه. ولهذا تدخلت أميركا مباشرة لإنقاذه وحمايته على مستويين، الأول، الجسر الجوي الأميركي لمده بأحدث ما في ترسانة أميركا ومخازنها من أسلحة تشمل قنابل زنة الواحدة منها 2000 رطل. والمستوى الثاني، مشاركة وحدات عسكرية أميركية في المواجهات على الأرض مع أبطال المقاومة، عدا عن المرتزقة الأميركيين والأوروبيين وأعدادهم بالآلاف في صفوف جيش النازية الصهيونية.
بالمناسبة، بدأت تتعالى أصوات داخل أميركا بأن اسرائيل بدأت تتحول إلى عبءٍ على الولايات المتحدة. وقد يأتي يوم يقتنع فيه التاجر الأميركي أن الكيان اللقيط مشروع خاسر، لم يعد الاستثمار فيه مجديًا.
سادسًا: كان طوفان الأقصى بداية دخول مستجد جديد في المواجهة مع الكيان، ونعني تطبيق مبدأ وحدة الساحات وترابط الجبهات. فقد هب محور المقاومة بأطرافه المعروفة إلى مساندة المقاومة الفلسطينية في غزة. ولعل من أهم انعكاسات اسناد قوى المقاومة لغزة، تشكيل حالة مقاومة شعبية عربية في مواجهة العدو وقوى التخاذل والإنهزام، من شأنها تحصين مناعة الجسد العربي لجهة الاستعصاء على تقبل الوجود غير الشرعي للكيان الغاصب مهما تعرض له هذا الجسد من محاولات التخدير.
سابعًا: على الصعيد الاقتصادي، تسبب طوفان الأقصى وارتداداته بخسائر جسيمة لاقتصاد الكيان، نتيجة ترك أعداد كبيرة من العاملين في القطاعات الاقتصادية عملهم والانتقال إلى المشاركة في العدوان الاجرامي على غزة. فهناك شلل شبه كامل في قطاع السياحة، كما أن قطاع الزراعة ليس أفضل حالًا. ومن أهم مؤشرات خسائر الكيان اقتصاديًا:
- فقدان الشيكل ما بين 5-10% من قيمته، والخسارة مرشحة للزيادة مع إطالة أمد العدوان.
- ارتفاع نسبة البطالة إلى 11%، وتجاوز أعداد العاطلين عن العمل 750 ألف شخص.
- تراجع في قطاع التكنولوجيا، وتجميد عقود بقيمة 71 مليار دولار.
- شلل مرفأ أم الرشراش على البحر الأحمر، وخسائر تجاوزت 14 مليار دولار.
- وصل عجز موازنة الكيان إلى 35 مليار دولار، أي ما يعادل 6,9% من حجمها الإجمالي. أما التكلفة اليومية للعدوان، فتصل ما بين 262 و 269 مليون دولار طبقًا لمصادر اسرائيلية عدة.
ونختم بفِقرات ثلاث من سبعة سطورٍ، تضمُرُ من المعاني والمغازي أكثرَ مما تُظهر. ونحن على ثقة تكاد تكون تامة، أن المُضمرَ في السطور لن يستعصي التقاطُهُ على ذكائكم.
طوفان الأقصى البطولي، كان من الممكن أن يكون انطلاقة تاريخية لتقديم موعد زوال الكيان الصهيوني الشاذ اللقيط، وما نراه إلا زائلًا طالَ الزمان أم قصُر. لقد كشف الطوفان هشاشة الكيان، وفضح وحشيته المستمدة من عدم ثقته بالمستقبل، ومن القلق الوجودي المسيطر على وعيه الجمعي. لكنه في المقابل، سلط أضواءً ساطعة على أسباب العجز العربي، ونشر تحت الشمس مسببات ضعفنا، وما نحن بضعفاءٍ إنْ أردنا !
* محاضرة أُلقيت في بيت الثقافة والفنون
بدعوة من مركز تعلم واعلم، عمان،
الثلاثاء 23/7/2024
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |