التنوير الديني والماركسية عند محمود محد طه . ( الحلقة الثالثة )

فريد العليبي
2024 / 6 / 15

تركز اهتمام محمود محمد طه فضلا عن ذلك على اثبات أن الماركسية ليست وحدها اشتراكية كما ليست وحدها علمية ، مُحاولا الفصل بينها وبين " الاشتراكية العلمية " التي تتسمى بها ، فصفة العلمية برأيه لا ينبغي احتكارها من طرف أي كان ، وهو ما ألمحنا اليه ، فهي تخص البشر كافة ، الذين يدركون حقائق تتسم بالثبات ، والعلم برأيه مفتوح ، متجدد ، متطور أبدا ، وهو يسير من المجهول الى المعلوم ، من النسبي الى المطلق .
وهذا يفسر بكونه يقول هو نفسه بالاشتراكية على قاعدة ايمانية إسلامية ، لذلك لا يريد لاشتراكيته أن تكون في أسفل السلم مقارنة باشتراكية ماركس الموسومة بالعلمية ، يقول: " الماركسية مدرسة من مدارس الاشتراكية .. و دي تقال لمصلحة الاخوان الماركسيين أنفسهم ، لأنهم هم يعتقدوا ، و كلموا الناس بأنك إذا أنت كنت عاوز تكون اشتراكي لازم تكون ماركسي .. الحقيقة التي نحن نريدها أن تكون واضحة هي أن الاشتراكية إنما هي مصير الإنسانية بكرة .. ما في ذلك أدنى ريب ، لكن الإشتراكية لا يمكن أن تتحقق إلا إذا إنهزمت الماركسية " . ، وهو ينزع هنا عن الماركسية اختصاصها بالاشتراكية العلمية لكي تصح على الديمقراطية الاقتصادية ، متحدثا عن الديمقراطيتين باعتبارهما جناحي المجتمع ليطير محلقا في الأجواء ، فطه مع الاشتراكية ولكنها اشتراكية دينية / إسلامية فهي ليست خاصة بالماركسيين وانما بغيرهم أيضا ، والقول أنها حكر عليهم مجرد تضليل في رأيه. لذلك يؤكد ان ماركس ليس أول اشتراكي ، كما أنه ليس آخر اشتراكي ، وهو يقول ذلك لإيجاد شرعية أيديولوجية لاشتراكية أخرى يُلونها الدين كما قلنا .
و يلخص طه الأسس التي تستند اليها الاشتراكية الماركسية في خمس مبادئ ، وهى أولا أن مجرى التاريخ تتحكم فيه القوى الاقتصادية، وثانيا أن التاريخ ما هو الاّ سجل لحرب الطبقات.، وثالثا أن الحكومة ما هي الاّ أداة تستخدمها طبقة في اضطهاد طبقة أخرى، ورابعا أن العنف والقوة هما الوسيلتان الوحيدتان لتحقيق أي تغيير أساسي في المجتمع . وهذه المبادئ تعود الى ماركس، أما الخامس فيعود برأيه الى لينين فهو من أضافه ، ويتمثل في القول بوجوب مراعاة الدقة في تدريب كبار المخططين، والمنفذين للثورة الشيوعية، في الوطن وفي الخارج على السواء، ليكونوا ثوريين محترفين متفرغين ، ويقول إن هؤلاء هم الذين يتكون منهم الحزب الشيوعي .
و يكشف هذا التلخيص عن عدم اطلاع طه على الفلسفة الماركسية ، لذلك لا نجد أثرا لمصادر عاد اليها ، ومن الممكن بالرجوع الى الماركسية تبين أن هذا التلخيص لا يرقى الى مستوى فهمها والاحاطة بها ، فالمبدأ الأول يجوز تفنيده بالعودة الى رسالة أنجلس الى جوزيف بلوخ التي يبين فيها أن العامل الاقتصادي ليس الوحيد وليس دائما هو ما يحدد التطور التاريخي فـ" بحسب التصور المادي للتاريخ، فإن العامل المحدد للتاريخ هو في النهاية انتاج وإعادة انتاج الحياة الواقعية ، ولم يؤكد ماركس ولا أنا أكثر من ذلك أبدا، واذا شوه أحد هذا القول بعد ذلك لينطقه بأن العامل الاقتصادي هو المحدد الوحيد ، فإنه يحول هذه القضية الي عبارة فارغة ، مجردة ، ولا معقولة "، 3 والمبدأ الثاني يمكن تصحيحه من خلال فصل ماركس وأنجلس بين التاريخ المكتوب وما قبله ، فقد كانت هناك مرحلة ( المجتمع المشاعي البدائي ) لا وجود فيها لصراع الطبقات ، ثم كان المجتمع الطبقي ، كما سوف تكون هناك مرحلة ينتفي فيها ذلك الصراع ( المجتمع الشيوعي ) ، أما النقطة الثالثة فيخلط فيها طه بين الدولة والحكومة ، فالماركسية تعتبر الدولة ذاتها لا الحكومة فقط أداة اضطهاد طبقة لطبقة أخرى ، حيث بين أنجلس أنها نتاج للتناقضات بين الطبقات 4، ثم كان كتاب لينين " الدولة والثورة " الذي نحا المنحى ذاته ، والنقطة الرابعة يعاني فيها طه من نفس الفقر الفلسفي فالماركسية لا تقول إن القوة والعنف هما بشكل مطلق وسيلتان وحيدتان لتحقيق التغيرات الأساسية في المجتمع ، وقد بين انجلس ذلك بالقول ان الشيوعيين ليسوا هواة عنف وهناك فترات تاريخية يحدث فيها التحول سلما كما بيناه سابقا ، أما الخامسة فهي ليست إضافة من لينين وانما موجودة عند ماركس وأنجلس أيضا ، وعلى عكس ما إعتقده طه فإن هؤلاء المنفذين والمخططين موجودين ضمن العمال أنفسهم فضلا عن آخرين منسلخين من طبقاتهم ، والحزب الشيوعي ليس فئة من خارج الطبقة وإنما هو هيئة أركانها، كما إن تحرر العمال سيكون من صنع العمال أنفسهم 5 ، الخ ....
و هذا الذي بيناه لا ينفي أنه كثيرا ما يتردد بين قبول ورفض ما يقوله كارل ماركس فهو يوافقه أولا على الدور المهم للاقتصاد " فإنه جميل قوله أن مجرى التاريخ بتتحكم فيهو النظم الإقتصادية .. ده ، بطيبعة الحال ، حق ، وواضح "6 ، بل إنه يربط ذلك بتجربة السودان مع الاستعمار " و نحن ، في بلدنا دي ، بنعرف الإستعمار جيداً .. في العالم كله نحن بنعرف أن الإستعمار قائم على النظم الإقتصادية الرأسمالية"7 ، مُستدلا على ذلك بالمثال الهندي: " الهند سميت ...البقرة الحلوب للإمبراطورية البريطانية ، كانت بداية إستعمارها شركة تجارية ، هي شركة الهند الشرقية " 8 ، كما يوافقه ثانيا في اهتمامه بالصراع الطبقي : " إذا كان مشيت لمسألة الصراع الطبقي بتلقى أن التاريخ تقريباً سجل ليهو .. دا حق .. الصراع الطبقي هو النزاع بين الطبقات " ، ويتفق معه ثالثا بخصوص الحكومة " نقطته الثالثة هي مسألة الحكومة: فالحكومة عنده هي أداة في يد الطبقة المستغلة لتستغل بيها الطبقات المستغلة .. و دي أفتكر أنت يمكنك أن تشوفها... الحكومة يمكن أن تكون أداة تنفيذ لأغراض الناس المستغِلين (بالكسر)" 9 و يتفق رابعا مع الماركسية جزئيا (العنف ، و القوة ، هما الوسيلتان الوحيدتان لإحداث أي تغيير أساسي في المجتمع) و يختلف معه جزئيا أيضا " العنف ما ضروري ، لكن القوة ضرورية ."10 .
والطريف أنه ينقد ماركس من جهة افتقاره الى الخيال بقوله : "أنا أعتقد أن كارل ماركس ما كان عنده خيال كافي عن المستقبل .. في نقص في فكرته عن المستقبل .. لقد كانت نظرته عملية ، و كان يخاف من الخيال ، و يتبرأ منه ، بالصورة التي تركته يحاول أن يزحف على كل الأرض ، بدون ما يكون عنده خيال واضح هو ماشي لي وين .. اللهم إلا خيالا ً يستخلصه من الماضي" 11وهو يقع هنا في قدر من التناقض، فقد قال مثلما بيناه سابقا أن الماركسية تستغرق في تنبؤات مؤسسة على نظرتها للحتمية التاريخية ، بينما يؤاخذها هنا على عدم تخيلها لما سيكون عليه مجتمع المستقبل ،ولكنه يستدرك في نفس الوقت ، مفرقا بين خيالين ، خيال مبني على الماضي وخيال متحرر منه ، لذلك قلنا إن هناك قدرا من التناقض، فذلك التفريق بين الخيالين غير ذي معنى .
غير أن ما اثار حفيظته في الماركسية أكثر من غيره هو القول بديكتاتورية البروليتاريا " بتاعة (دكتاتورية البروليتاريا) .. دي نقط كلها فيها ضعف .. وهي مما يمكنك أن تقول أنها مما يوضع في ميزان سيئاته"12 ، متخذا موقعا له الى جانب الليبرالية وديمقراطيتها التمثيلية ، فالديمقراطية تعني لدية أحزابا تتنافس فيما بينها وانتخابات يختار خلالها الشعب من يمثله ، وفي غياب ذلك يكون الاستبداد ــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش.
1 محمود محمد طه ، الماركسية في الميزان .
2تنبه تاج السر عثمان في مقاله : كيف تناول الأستاذ محمود محمد طه الماركسية؟ الى ذلك بقوله : "كان الأجدى للأستاذ طه أن يرجع لأصول الماركسية باعتبارها مراجع أولية ، كما ورد علي سبيل المثال : في مؤلفات كارل ماركس وفردريك انجلز : "البيان الشيوعي" لماركس وانجلز ، " الأيديولوجيا الألمانية " لماركس، "انتي دوهرينغ" لانجلز ، و"رأس المال أو نقد الاقتصاد السياسي البورجوازي" لماركس...الخ ، إضافة لدراسة منهج الماركسية لمعرفة الواقع بهدف استيعابة والعمل علي تغييره، وهذا هو جوهر الماركسية" الحوار المتمدن .
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=583572.
وفعلا يبدو اطلاع طه على الماركسية محدودا خاصة من جهة العودة الى أصولها مكتفيا بتلاخيصها فمن المشكوك فيه انه قرأ ماركس أو انجلس في متونهما ، وانما اكتفى على الأرجح بما كتب عنهما فجاء حديثه عن الفلسفة الماركسية شاحبا فاقدا للحيوية ، وقد يفسر ذلك بغلبة الديني لديه على الفلسفي مثلما هو حاله مع غلبة السياسي على الفلسفي إياه . وقد رجح عثمان أنه عاد لكتيب تعليمي لستالين ولم يعد الى تلك المتون " بعد الاطلاع علي المحاضرة ، نلاحظ أن الأستاذ طه استند فيها علي كتاب جوزيف ستالين " في المادية الديالكتيكية والتاريخية"، ومعلوم أن هذا المرجع لستالين به عرض غير دقيق للماركسية ، بحيث يمكن القول أنه لا يساعد في العرض السليم للماركسية قبل مناقشتها." المرجع نفسه .
ولكن محمود محمد ياسين يرى العكس فستالين لخص بأمانة ما فكر فيه ماركس وأنجلس ولينين، معتبرا ما قاله عثمان فيه ابتذالا لستالين وأن نقده غير نقدي "إن عدم التفكُّر والاكتفاء بتقرير أن جهل طه بالماركسية هو ما قاده لهذه أو تلك الفكرة يأتي تعبيراً لنزعة النقد اللانقدى التى تعجز عن كشف طبيعة ومحتوى أفكاره ، فطه كان على صواب من حيث تعامله النقدي مع الماركسية " محمود محمد طه والماركسية ، موقع الحور المتمدن
.https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=469881
معتبرا أن المشكلة ليست في احاطته بالماركسية أم لا وانما في ادراك طبيعة فكره من وجهة النظر الماركسية، وغني عن البيان أن ياسين ينقل المسألة الى مستوى آخر لا يتعلق بالاطلاع على الماركسية في أصوبها وانما بكيفية النظر الى أفكار محمود محمد طه من زاوية ماركسية
3 رسالة فريدريك أنجلس الى جوزيف بلوخ بتاريخ 21 / 22 سبتمبر 1890 ، الترجمة الفرنسية ضمن : https://www.marxists.org/francais/engels/works/1890/09/18900921
4 يقول فريدريك أنجلس : " الدولة ليست بحال قوة مفروضة على المجتمع من خارجه. والدولة ليست كذلك «واقع الفكرة الأخلاقية»، «صورة وواقع العقل» كما يدعي هيغل. الدولة هي نتاج المجتمع عند درجة معينة من تطوره؛ الدولة هي إفصاح عن واقع أن هذا المجتمع قد تورط في تناقض مع ذاته لا يمكنه حله، وأنه قد انقسم إلى متضادات مستعصية هو عاجز عن الخلاص منها. ولكيلا تقوم هذه المتضادات، هذه الطبقات ذات المصالح الاقتصادية المتنافرة، بالتهام بعضها بعضاً وكذلك المجتمعات في نضال عقيم، لهذا اقتضى الأمر قوة تقف في الظاهر فوق المجتمع، قوة تلطف الاصطدام وتبقيه ضمن حدود «النظام». إن هذه القوة المنبثقة عن المجتمع والتي تضع نفسها، مع ذلك، فوقه وتنفصل عنه أكثر هي الدولة " أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة ، ضمن : ماركس / أنجلس ، منتخبات في ثلاثة مجلدات ، المجلد 3 ، الجزء 2 ، موسكو ، دار التقدم 1981، ص 177.





5Karl Marx. Statuts de l Association Internationale des Travailleurs in https://www.marxists.org/francais/marx/works/1864/00/18640000.htm
6محمود محمد طه ، الماركسية في الميزان .
7نفس المصدر.
8 نفس المصدر.
9 نفس المصدر.
10 نفس المصدر
11 نفس المصدر
12 نفس المصدر

.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي